{ التقيته منذ نحو أربع سنوات تقريباً بالمدينةالمنورة، ولازلت أذكر تفاصيل تلك الصحبة المباركة. قال لي يومها علينا اليوم أن نتناول إفطارنا ونصلي المغرب بالروضة الشريفة، وكان الحرم يحتشد بمئات الآلاف إن لم يكن ملايين، فتلك مواسم العمرة الرمضانية المشهودة. نجح هو على ما أذكر في الوصول إلى الروضة الشريفة وحقق رغبته الجامحة تلك، ويا لها من رغبة وياله من حرم وروضة، ثم التقينا بعد الإفطار في أول عمود من جهة باب السلام كما اتفقنا من قبل، وكنا قد فقدنا أحذيتنا وسط ذلك الزحام، فالمورد العذب شديد الزحام. وأذكر أننا قد توجهنا تلقاء أسواق الحرم واشترينا (شباشب بيضاء). وإلى وقت قريب كنت ألتقيه في «البلد» فيقول لي «أنا لازلت احتفظ بذلك الشبشب الأبيض».. وتلك الأيام البيض. * وفي اليوم الثاني لنا بالمدينةالمنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، كانت زيارتنا إلى شهداء أُحد الجبل، فصعدنا حيث ترك الرماة أماكنهم وهبطنا ووقفنا في كل تلك المواقف الشريفة، وكنا قد سبقناه إلى «السيارة» وكان هو مشغولاً «بشكلة» بين شبان سعوديين وإخوة باكستانيين، على ما يبدو أن الاشتباك كان حول «أحقية ممارسة التقاط الصور التذكارية للحجيج». قال لي بفكاهته المشهودة (المحل دا محل لُبَّاخاً قديم)! واللُّباخ بمصطلحات (أولاد البحر) في نهر النيل هو الاقتتال والاشتباك. فقلت له مجارياً.. (لكن لُباخاً مجيّه)، وكنت أشير إلى غزوة أُحد كما أشار هو إليها. * ثم هرعنا عشاءً إلى صلاة التراويح وتُصلى في الحرم عشرين ركعة، ولما فرغنا منها وعدنا إلى النزل، هاتف شقيقه عبدالله محجوب المقيم بمنطقة الخميس جنوب المملكة قائلاً.. (الليلة ود الماحي كمل فهمي في الصلاة)، وكلما جلسنا لتناول وجبة حيث الدجاج والأرز الآسيويين، يقول لي (يا خوي نحنا الرز دا ما بنفتر منه).. حكايات وقصص ومواقف لا تنسى في مدينة الرسول «صلى الله عليه وسلم». * تركته وراء ظهري بمدينة جدة ينتظر فريضة الحج، فلبث بعدها ثلاثة أشهر ولم يعد إلى السودان إلا بعد أن أدى الفريضة، ثم نزل إلى (البلد)، عليه من الله الرحمة والغفران، ليمارس هوايته المحببة في إسعاد الآخرين، إنه هو المرحوم هاشم محجوب الصادق، الذي وارينا جثمانه الثرى صبيحة الجمعة الفائتة بمقابر (البنداري) بشرق النيل، رحمه الله رحمة واسعة، حيث داهمه المرض منذ شهور قليلة وظل يتردد على مشافي الخرطوم حتى لاقى أجله المحتوم منذ أيام معدودة. * لم يترك ضحكاته وفكاهته يرحمه الله وهو في أحلك الظروف، فكان هاشم محجوب «فاكهة مجالسنا»، فما جلس في مجلس إلا وتسوره الأهل والأصحاب، لم يره أحد يوماً غاضباً، كان باستمرار منشرح الصدر، فهو ممتلئ بالفرح لدرجة الإفاضة، فهو يوزعه على الآخرين، فكل ينفق مما عنده يرحمه الله رحمة واسعة. * ينتمي المرحوم هاشم محجوب الصادق إلى أسرة عريقة عرفت بالمروءة والكرم وخدمة الآخرين، فوالده محجوب الصادق هو أول من أدخل «عربة ركاب» في ذلك الخط (مبيريكة أرتولي العبيدية بربر) وبالعكس، كان ذلك قبل أن تعرف هذه المنطقة (شارع الظلط والحافلات) منذ بضع سنوات، وكانت في تلك الخيران لا تصمد إلا (السفنجات)، كان عمنا محجوب الصادق عليه الرحمة قد اكتسب شهرة كبيرة «الدرجة الغناء» والمدح، فورث المرحوم هاشم هذه المهنة عن أبيه فعمل بها لعقود من الزمان في ترحيل المواطنين من تلك القرى إلى المدينة، وكانت عربته في الليالي الحالكات تعمل «إسعافاً» لنقل الحالات المستعجلة. فكم أنقذ متعسرة وأدرك متعسر، كان لا يعرف غير أن ينقل الأهالي بمواشيهم ومحاصيلهم إلى المدينة ويوزع لهم الطرائف كما توزع الشكولاتة. *(فالدرب السواه ساساقه)، وتلك الأرض التي طالما (ضرعها) جيئة وذهاباً، كما لو أنها لم تسعه، «فما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت».. هكذا تخرج روحه الطاهرة بإذنه تعالى في الخرطوم ويدفن في (البنداري) المحطة الأخيرة لرجل طالما عرفته المحطات. هكذا انتهت تلك الرحلة العامرة بالمروءة والشهامة والحلم. * كان هاشم محجوب «كتاب بأكمله» إذا تصفحته وقفت على حياة مفصلة لأولئك الأهالي في تلك المضارب، وحكايات ومواقف بين الحقول والمزارع والحلال والمدائن القريبة. *انتهت الرحلة..انتهى الكلام.. انتهى المقال.. انتهت هذه الحكاية السمحة التي امتدت ما بين (السويقات والبنداري).. ولا نقول إلا ما يرضي الله.. اللهم إنه فقير نزل بساحة رحمتك.. اللهم أكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد.. وأنزله برحمتك منازل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. «إنا لله وإنا إليه راجعون».