بدت مدينة نيالا أشبه بالقلب النابض في جسد دارفور الكبرى، مستسلمة لوادي «برلي» الذي قسمها لنصفين فجعل منها بطيناً أيمن وآخر أيسر تتأكسد فيهما دماء التعايش والسلام والمحبة. وبدت أمس الأول «الإثنين» ضاجّة منذ «دغش الرحمن» يتقافز ساكنوها كأنهم في مران ليوم عظيمة وليس ثمة ما يدل على أنها جزء من حرب شغلت العالم فانشغل بها، اللهم إلاّ من مظهر لجنود تأمين انتشروا على نحو متفرق في الشوارع الرئيسة للمدينة وهي تستقبل المشير البشير الرجل ذو الثلاث قبعات حال كونه مشيراً في الجيش ورئيساً للجمهورية ومُرشّحاً رئاسياً عن حزب المؤتمر الوطني، فأي تلك القبعات كانت كفيلة بجمع الملايين من محليات جنوب دارفور المختلفة من نساء ورجال وأطفال للاكتحال برؤيته وهو ينيخ عِيسهُ بالقرب من وسط المدينة وسوقها الضاج؟ حيث اختارت قيادة هيئته الانتخابية ميدان المولد الكائن بحي «الاسبتالية» مكاناً لتدشين حملته الانتخابية حشدتها بصيوانات على ضخامتها تقاصرت عن إظلال الكثيرين فطفقوا في حر مارس اللافح للالتجاء لظل مقطورات الشحن التي اُتخذت صرحاً يطلع منه الصحفيون والإعلاميون بكاميراتهم وفلاشاتهم المضيئة فأرهقوا كتوفهم بالمنافحة هرباً من الهجير.. غير أن آخرين عافوا ذلكم الظل واختاروا بدلاً عنه مواجهة الهجير واستثمار تجمع تلك الخلائق، فأوسعوا أرض الميدان ضرباً بالأرجل وحمحمة بالصدور والحلاقيم واهتزازاً بالأكتاف كأجمل ما يكون الرقص وأمتع ما تسمع الأذان من لحن يؤديه الرجال والنسوة مناصفة كعمل مقدس لا تنقص أشعة الشمس من لذة الإتيان به وجفاف الحلوق العطشى متعة الترنم بمفرداته التي لا يميزها «بحراوي» مثلي حرمته الطبيعة الجغرافية من التعرف على وطنه وظَلَمه الإعلام الحداثوي المسموع وكالَه بغناء مثل «البَهَق» على جسد الوطن والحبيبة كما قال محمد الحسن وكنت لشدة غرارتي أجهل، حتى الإثنين الماضي، مقدرة النسوة على ركوب الجمال لولا «دبوكة» منها عفرت باحة الميدان بالغبار فانكشف عنها ثلة من الهجانة تتوسطهم نساء - بزينة بدوية مليحة ووشم على خدود شابة - قيل أنهن «حكّامات» يمارسن في مجتعاتهن ما أمارسه الآن فيكم بلا رقابة أو قانون إنما بمهنية قوامها تمجيد القبيلة والذود عنها بلا مِنّة غير التي تقر أعينهن. احتفال كبير في ميدان المولد بنيالا بدأ احتفال المواطنين سابقاً للاحتفال الرسمي بنحو «6» ساعات برقصهم الموصوف أعلاه بسبب طيران البشير الى شمال بحر الغزال بعد قدومه لمطار نيالا الطرفي عند العاشرة صباحاً ومكوثه فيه مقدار إجراء مراسم استقباله وتبديل زيه الأفرنجي بزي آخر أفريقي يتسق مع أذواق المواطنين الذين انتظروه في ذات الأثناء بمدينة أويل، ومن ثم عودته مجدداً الى مدينة نيالا وميدان مولدها الصاخب عند الرابعة عصراً، ففجّت له الجموع ليدخل بعربته المكشوفة على أهازيج المغنى صاحب الصوت المعتق مجذوب أونسة ليعتلى المنصة رئيس المؤتمر الوطني ومُرشّحه لوالي جنوب دارفور عبد الحميد موسى كاشا وهو يدعو المواطنين لانتخاب المشير البشير رئيساً قادماً في الاقتراع القادم، ويكشف في ثنايا دعوته تلك عن ترشيح السكرتير العام للحزب الشيوعي محمد إبراهيم نقد للبشير كرئيس قادم، وقال: «أنا أشكر محمد إبراهيم نقد لأنه قال لواحد من الصحفيين اكتب على لساني أنا حأصوت لعمر البشير» ،وتلاه بتكبير وتهليل رددته الجموع الحاضرة، من ثم ترجل كاشا ليحل مكانه الوالي المكلف عمر عبد الجبار لينحو ذات المنحى الداعي لترشيح البشير مصحوباً بشكر أحزاب حكومة الوحدة الوطنية الداعمة لذلك الترشيح، وشكر ثمين خص به سفير باكستان الذي كشف لعبد الجبار أن البشير أكثر الرؤساء حظوظاً في الحب لدى سكان العالم. ليعقبه عضو هيئة انتخاب البشير عبد الله علي مسار الذي قدم البشير كواحد من السودانيين البسطاء دون احتكاره لحزب معين. حُبّاً بِحُب بدأ البشير كلمته سعيداً بالجمع الكثيف حسبما عبر بلسان حاله ومقاله وإبدى ما يعتلج في سريرة نفسه من تساؤلات حين قال في خطابه الدارج: «أنا جاي داخل نيالا سألت نفسي يا ربي حيستقبلوني زي ما كنت رئيس؟ لكن لقيت نيالا استقبلتني أكثر مما كنت أتمنى»، وأردف «نيالا عندها مكانة خاصة في نفسي لأنها كانت بداية عملي بالقوات المسلحة عشان كدا المحبة ما بتكون من طرف واحد إنما محبة متبادلة مع أهل نيالا»، وتعهّد بعدم عودة الحرب للإقليم، وحذر الحركات من مغبة عدم الرضوخ للسلام، وقال «البِيَابا الصُلح ندمان»، وأردف «إن ما اُتفق عليه من ترتيبات أمنية لا نقبل فيه نكوصاً وتسويفاً» ودعا كافة المواطنين لنبذ القبلية وجمع السلاح ليكون حكراً في أيدي الشرطة والقوات المسلحة، ووعد بإكمال كافة طرق التنمية بالولايات الدارفورية لربطها بدول الجوار، ونبّه المواطنين بعدم السماح، لمن أسماهم المخربين والمجرمين ومثيري الفتن، بالتغلغل في المجتمع الدارفوري. وقطع البشير بعدم قبول الحكومة لمفاوضة الحركات منفردة، وقال إن الدوحة مفتوحة للجميع ولن نقبل «زول يجي يقول فاوضوني براي».