كان الدكتور (الطبيب البيطري) السِّر عبدالنور مثقلاً بهول المصيبة وهو يقف بين يدي المصلين بمسجد منظمة الدعوة الإسلامية بمدينة الرياض بالخرطوم، وذلك عقب صلاة المغرب أمس الأول «الثلاثاء»، وهو يحاول أن يستجمع قوته ويرتب بعض الأشتات ويلمها في لحظة ابتلاء، وهو لا يعرف من أين يبدأ وإلى أين ينتهي، فالكتاب الذي طويت صفحاته؛ توزعت مادته على أكثر من نصف قرن من الزمان، وتوزعت مسيرته على كل أركان الدنيا، هذه المسيرة التي بدأت من قرية قندتو «بضع كيلومترات جنوب مدينة شندي»، الكتاب الذي اكتملت فصوله منذ ثلاثة أيام فقط؛ ياله من كتاب! ويالها من مسيرة! إنها رواية مكتملة الفصول والتفاصيل، امتلأ مسجد منظمة الدعوة الإسلامية كما لم يمتلئ منذ فترة، يخيل إليك أن تاريخ المنظمة والحركة الإسلامية يعيد نفسه، كما لو أن «أبا قصيصة» ومبارك قسم الله وعبد السلام، حاضرين بيننا، ما أشبه الليلة بالبارحة، وثمة عطر من أنفاس الحركة يفوح بين الحضور، فالمسجد هو مسجد الحركة الأول، أول مسجد أسِّس، على تقوى وعهد الإسلاميين، فبين هذه الجموع الغفيرة؛ إسلاميون حركيون من معارف إخوان الفقيد الكبير، ممن كان لهم إسهامهم ومعارفهم في هذا الوسط، غير أن الفقيد، شقيقهم الأكبر، الطيّار عمر عبد النور، إن لم يُعرف في أوساط الإسلاميين؛ فقد عُرف في مسجد الإسلاميين الذي يجاوره، وشهد له الإمام والمصلون بأنه كان من عُمَّار مسجد الحركة، عمارة توزعت بين الصلاة وجزيل العطايا، قال عنها الإمام (إن صينية عمر لم تغب عنهم في رمضان، وأن يديه كانتا مبسوطتين في غير رمضان، تنفق شماله ما لم تعلم يمينه، وتفعل يمينه ما لا تدركه شماله). إن الفقيد الكابتن عمر عبدالنور، الذي فقدته الأسرة والمدينة والبلاد والأمة منذ خمسة أيام، ولد وترعرع في قرية قندتو إحدى أشهر قرى مناطق جنوب مدينة شندي، ذهب إلى عالم الطيران عبر مدرسة وادي سيدنا الثانوية، ولقد برع في علم الطيران، وحلّق في أجواء كل الدنيا لما يقارب الثلاثة عقود من الزمان، طاف خلالها كل الأرجاء. قال لي شقيقي عبد الرحيم الماحي الموظف بشركة الخطوط الجوية السودانية، إن الطيار عمر عبد النور سلك كل دروب المخاطر، كان يتقدم إلى الرحلات الصعبة، وفي أيام احتدام الحرب كان يهبط ويقلع في كل مدن الجنوب والرصاص والدانات من حوله، وقليل غير (فارس الفضاء) من كان يفعل ذلك، ويكفي أنه من آل عبد النور عمر ليكون صاحب إسهام وأوسمة بطولية وقومية. ألا وأن والشهادة لله هذه الأسرة كسبٌ إسلامي ووطني مقدَّر، تعرفت على هذه الأسرة، التي أنجبت الفارس عمر، منذ ما يقارب ربع القرن من الزمان، ولا حديث لهم إلا عن حقل الدعوة والجهاد، الدكتور السر صال وجال في مناطق العمليات، وكذا رجل القرآن الوليد (أترجَّة مجالس الدعوة) وإخوانهم، وكأني بعمر (فقيد السحب والأنواء) وهو يموت في فراشه، يرحمه الله، يطرق بقوة مقولة الصحابي الجليل خالد بن الوليد (لم يخلُ شبر من جسدي وإلا به ضربة سيف أو طعنة رمح، وها أنا أموت على فراشي كما تموت العير؛ فلا نامت أعين الجبناء)، فكأني بالفقيد يردد (ما من رحلة خطيرة إلا وركبت مصاعبها واقتحمت مخاطرها، واليوم...). ولا أملك إلا أن أسترجع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، (إنا لله وإنا إليه راجعون، ولاحول ولا قوة إلا بالله). ويمتد العزاء للدكتور السر، والوليد، ومصعب، وحنان، وسلافة، وإخوانهم وأخواتهم وأسرتهم وآلهم، ولأسرة الفقيد وزملائه ومعارفه.