لليوم الثاني على التوالي شهدت مراكز الاقتراع في ولايات السودان المختلفة إقبالاً ملحوظاً بخلاف يوم أمس الأول الذي سادته ربكة فنية واضحة وعيوب، وحسب المعلومات الواردة لنا من ولاية نهر النيل فقد شهدت محلية شندي تواضعاً من جمهور الناخبين للإدلاء بأصواتهم، والأمر فيما يبدو يحمل جملة من الدلالات نوجزها في محلية شندي بدائريتها الشمالية والجنوبية القوميتين، وتمثل دائرة مرشح المؤتمر الوطني لرئاسة الجمهورية، لذلك فإن الحركة فيهما تبدو ذات وضع خاص، تجسدت فيها بشكل جلي ملامح القومية رغم تعدد المنابر السياسية التي ينتمي إليها جمهور الناخبين، وهنا لا يمثل الالتزام السياسي الحزبي حاكماً لإرادة الناخب في اختبار من يمثل البلاد في رئاسة الجمهورية، كثيرون من الذين ينتمون سياسياً لأحزاب مختلفة غير المؤتمر الوطني لديهم القناعة القومية هنا، ولعل هذا يقودنا إلى الحديث عن معنى القومية، فعلى الرغم من أن وتيرة اليوم الثاني قد سارت بشكل عام كما هو الحال بالنسبة لليوم الأول إلا أن وضعية التصويت لرئاسة الجمهورية قد أخذت منحى آخر ارتبط أيضاًَ بشكل جلي بتجربة المشير البشير شخصياً بغير اتجاه محكوم بأيدولوجية أو منهجية حزب معين، فغالبية الناخبين في هذه الدوائر المتعددة على المستوى الجغرافي القومي والولائي والقوائم ودوائر التمثيل النسبي للمرأة يبدو أنها الأنموذج القومي مجسداً بشكل أكثر وضوحاً لهم في شخصية مرشح الرئاسة البشير، وهو اتجاه تحكمه في دوائر شندي خصوصية قوامها الرضا والقبول العام لمواقف تمثل عندهم مواضيع عزة واعتداد، لذلك لم تتحكم في دواخلهم الانتماءات والولاءات، وهي خصوصية تحمل معاني الشكر والعرفان لأهل السودان جميعاً. ولكن لم يخلُ تواتر هذا الإحساس وهذا الشعور الوطني العام من بعض الإخفاقات الفنية والإجرائية والتنظيمية في أداء مفوضية الإنتخابات، ورغماً عن كل ذلك فإن المنتمين لمختلف القوى السياسية قد اتجهوا في التصويت لرئاسة الجمهورية من موقف وطني غالي. ولذلك يبدو أن عبئاً ثقيلاً سيقع على عاتق من سيظفر بقبول غالب أهل السودان في موقع الرئاسة، إذ أنه معني بأن ينجز التزامه السياسي الحزبي المطروح في إطار المنافسة في سياق قومي وطني يستوعب تقاطعات الخريطة السياسية بمكوناتها المختلفة، وهو عبء يعني أن ملامح الحكومة القادمة يجب أن يتجسد فيها هذا المعنى القومي بشكل أوضح، وإن كانت التجربة قد أسست لهذا المعنى في مرحلة ما قبل الإنتخابات في أنموذج حكومة الوحدة الوطنية والتنازلات التي صاحبت اتفاق السلام الشامل، والاتفاقيات الأخرى اللاحقة، إلا أن الأمر هنا اليوم يبدو مختلفاً، فالذين سيأتون عبر صناديق الاقتراع مطلوب منهم التنازل لإفساح المجال للبعد الوطني. فالقادمون مطلوب منهم أن يحملوا في طياتهم ملامح القومية بأكثر من الخصوصية السياسية التي تعبر عن فئة أو جماعة، وفي تجربة البشير شخصياً إشارة للبعد الوطني الغالب الذي من المتوقع أن يفوز بإرادة غالب أهل السودان رغم الاختلاف في خصوصية المنهج ورغم اتجاهات المدافعة السياسية، عليه حتى ولو كانت الغلبة للحزب الذي ينتمي إليه البشير إذا جاءت نتيجة الانتخابات بذلك، وهي مسألة شاقة تعني أن من يختارهم الشعب من قوى المؤتمر الوطني معنيون أيضاً بأن يفسحوا المجال لآخرين من مكونات الخريطة السياسية للوفاء بهذا البعد الوطني الذي انبنت عليه قناعات الناخبين، حتى تقل في ذلك عند جمهور الناخبين درجات النظرة ذات الخصوصية الضيقة تجاهها إلا آفاق البعد الوطني العريض، وهو سلوك سياسي يدفع باتجاه التأسيس للمشروع القومي الوطني. إذن علينا أن نمضي في ذلك بعد أن كان هذا الشكل لايبدو ممكناً أو متاحاً في آيدولوجيات وأطروحات كثير من الأحزاب العقائدية والتقليدية المتنافسة في الساحة الآن وسابقاً.