الفاتح ميكا كاتب وصحافي ومقل جداً في كتاباته القصصية لا يحب الأضواء ولا يسعى للشهرة. عمل صحافياً في السبعينيات بجريدة الأيام ثم وكالة السودان للأنباء ومراسلاً لبعض الصحف العربية. أصدر مجموعته القصصية الأولى وهو طالب بالمرحلة الثانوية عام 1969م (لن ترقص شامة) ومجموعته الثانية (الاغتراب والموت) عام 1973م. عمل صحافياً بدولة الإمارات العربية لأكثر من عشرين عاماً وعاد في منتصف التسعينيات، احتفت الأوساط الثقافية بعودته آنذاك وكتب عنه معاوية البلال عدداً من المقالات الصحافية في (الشارع السياسي) مشيداً بتجربته القصصية المتفرّدة، كذلك كتب عنه الراحل محمود محمد مدني وعيسى الحلو وخوجلي شكر الله. وأطلق عليه الناقد والكاتب عبدالقادر محمد إبراهيم لقب (بلزاك السودان). وأكد على ذلك د. مصطفى الصاوي. نُشرت له العديد من الأعمال داخل وخارج السودان وتم تكريمه مؤخراً من قِبل دولة الإمارات العربية المتحدة. نحاول في هذا الحوار الموجز تسليط الضوء على بعض جوانب تجربته الثرّة.
{ ما بين كتابك الأول وأنت طالب بالمرحلة الثانوية وكتابك الآن؟ الإنسان رصيد من المعرفة والثقافة التراكمية التي تتطوّر يوماً إثر يوم، ولكل مرحلة من مراحل الإنسان نشاطها وتجاربها وبريقها الخاص، وأقول لك بايجاز كما قلت في حوارات سابقة ما بين كتابي الأول الذي صدر منذ أكثر من ثلاثين عاماً والآن مسافة زمنية محتشدة ومُثْقلة حتى الاعياء بتجارب كثيرة ومواقف عديدة، البداية كانت لطالب صغير (بالأحفاد الثانوية بأم درمان) مشحون بكل فوران وضجيج المرحلة الخضراء والتجريب وبعض الهوس والمراهقة.. وكتابي الأخير (امرأة مثيرة للشفقة مجموعة قصصية)، رحلة طويلة يصعب اختزالها وشرحها في كلمات قلائل.. من يافع مزهوٍ بالحياة إلى رجل صقلته الحياة والغربة، يطرق باب الستين من عمره بطرقات خافتة وثاقبة. { أنت صياد ماهر للحظة إنسانية صغيرة تلتقطها من داخل الحدث وتصوغها بمفردة متفرّدة مذهلة، هل برمجت نفسك لالتقاط مثل هذه اللحظات، أم أن تلك اللحظات هي التي تلتقطك؟ لكل كاتب ثقافته وطرائق سرده والتقاط اللحظة الإنسانية من الحدث من الزوايا التي يراها ويجسّد من خلالها موقفه. والإنسان عموماً مجموعة من اللحظات السعيدة والحزينة، ومستحيل أن يبقى على وتيرة واحدة وهكذا شأن الحياة. هذا التفاعل ما بين الإنسان وما يحيط به من ظروف حياتية تنتج عنه المواقف والأحداث التي يرصدها الكاتب. { أنت مُقلٌ في كتاباتك ويلاحظ أن شخوصك يميلون للصمت والعزلة مع انعدام الحوار المباشر واللجوء إلى استخدام الحوار الداخلي (تيار الوعي)؟ صحيح أني مُقل فالعمل الصحافي كالغول الخرافي النّهم الذي يقضم الزمن بشراهة مخيفة ويكون ذلك خصماً على الكتابة الابداعية! عموماً أنا لا أميل للثرثرة في الكتابة حتى لا أتورّط في فخ غواية التقريرية التي تجعل الكتابة سهلة ومنسابة بلا معاناة كمركب صغير في عرض بحر كبير لا يحتاج إلى ماكينة لحركته بقدر ما يحتاج إلى نسمات ضئيلة فقط!! وحتماً يكون ذلك على حساب العملية الابداعية ويُفقد النص محتواه الفني، فالكتابة الابداعية عملية شاقّة ومُضنية، عملية اختناق واحتضار متواصل!! والمدهش في رأيي أن جمالها وروعتها تتدفق من معاناة عذابها وتمنُّعها ولحظات صمتها العصية الملتهبة، وفي لحظات الحشرجة والغرغرة تنسل من كل الخلايا والأعصاب والأوردة وتخرج من مسام الجسد كاملة النضوج والعافية، تاركة خلفها الكاتب يلهث ويتمرّغ في الوهن اللذيذ والخدر الممتع الجليل ومكللاً بفخر الانجاب الشرعي! { أشاد بعض الكُتّاب بتجربتك القصصية المتفرّدة وأطلقوا عليك لقب (بلزاك السودان)؟ عندما أكتب لا أرى سوى الأحداث أمامي.. ويغيب النقد عن مخيلتي تماماً وكل المدارس الفنية، وأكون في حالة تدعو للرثاء، وتأخذ مني القصة القصيرة زمناً طويلاً جداً، وطيلة لحظة كتابتها تمارس عليَّ سطوة وسُلطة القهر والاستبداد!! ولا أعود لسيرتي الأولى إلا بعد أن تكتمل وتكون مُفعمة بالحيوية وأكون في أقصى درجات الارهاق العقلي والجسدي والنفسي، وإذا جاز التعبير أكون مثل امرأة في لحظة الولادة وهي ما بين الحياة والموت.. تصر بأنها لن تعاود التجربة المريرة من جديد وما أن ترى مولودها تندمل معاناتها ويعاودها الشوق القاسي وتعود من جديد!! إنه نوع من أنواع العشق الجنوني الضروري!! أما حكاية وصفي ببلزاك السودان، قرأت ذلك.. وفي النهاية يكون مجرد رأي ولا تعليق لديَّ!! { ما تعارف على تسميته كتابة هل هو هروب من قيود الجنس الكتابي إلى فضاءات لا نهائية!؟ وماذا عن الكتابة المتوحشة التي أطلقتها على كتاباتك النثرية؟ الكتابة هي حالة وعملية افراز لكل ما يعتمل في النفس المهمومة بالكتابة وتختلف طرائق الكتابة باختلاف المحرضات والمفاهيم والمعتقدات من كاتب لآخر، بحجم ثقافته، ولكل جنس أدبي شروطه وأدواته التي تُحدد ملامحه عن الجنس الآخر، وهي عملية إعادة تشييد فضاء رحب يستعيد المخيلة الموؤدة واتفق مع الناقد (محمد برادة) في قوله (أن نكتب أن نحتفل بنكهة اللغة الطازجة وطراوة المعرفة الكاشفة وأن نقص معناة أن نلملم أطراف المشتت والمتلعثم والمتآكل، والمنقسم والوقح والملتصق بالجلد والذاكرة لنعيد نسجه وتوليف عناصره واستثماره وفق ما يجعل النفس ترتج بحقيقتها وحقيقة مجتمعها). أما عن الكتابات المتوحشة فهي كتابات نثرية قد تكون هروب من قسوة ووطأة الكتابة القصصية الموجعة التي مهما اختلفت في أسلوبها ومضمونها فهي تتحرك داخل قفص القص حتى تحتفظ بهويتها. الكتابة المتوحشة كتابة حرة بلا قيود وخارجة عن دائرة التخبُّط وتغرد خارج أقفاص الأجناس الأدبية تتدفق كيفما شاءت، لا تعرف الاشارات الحمراء والتوقف القسري القهري وهي أشبه ما تكون بصرخة في البرية! تحفر مجراها بتلقائية وصخب وتنمو كالأعشاب في العراء وهي كالعطر الذي تشمّه في الحقول والسهول والبراري من غير أن يعبّأ في زجاجات!! متمردة على التدجين والاستلاب وعلى المرئي المُتفق عليه والمكسو بالجماليات المصطنعة، التي في كثير من الأحيان تشكِّلها السلطة أو بعض الخجل الإنساني الذي يُفسده البوح الفطري البدائي، وهي يايجاز محاولة لسبر غور اللا مرئي والمخبوء والرافض لكل الكلمات المستهلكة والقابع كمنارة تحت الماء في شاطئ مهجور وفي ليل حالك السواد. وهي باختصار لا تهتم كثيراً بخلق مبررات لبوحها الساخن الجامح. { استاذنا ميكا لا يسعني إلا أن أكرر الشكر على هذه الافادات ودمت بعافية.