الأمزجة.. الأهواء.. الرغبات.. الميول، كلها مسميات تترجم مضمون التفضيل والاحتياج في حياتنا. وأذكر أن مزاجي الطفولي البكر قد اختلف تماماً عند دخولي إلى مرحلة المراهقة الأولى، ثم اختلف أكبر عند الصبا.. والشباب.. والأمومة.. وهكذا دواليك.. فلم يستقر مزاجي أبداً على حال.. وربما الاتفاق الوحيد الذي أيدته كل هذه المراحل المختلفة كان مزاجي في الكتابة والقراءة، أما ما عدا ذلك فقد اختلف على كافة الأصعدة، حتى الأطعمة التي كنتُ أنفر منها يوماً ما ولا أفضلها، أتى اليوم الذي تعلّقت فيه بها، وكذلك الأغاني والمغنين، والمشروبات، وطريقة اللبس، وذوقي في اختيار الأثاث والاكسسوار، بل وحتى علاقاتي بالآخرين، فمنهم من لم أكن (أطيقه) يوماً ولا تتلاءم شخصيته مع أيدلوجياتي الفكرية والنفسية، ثم جاء اليوم الذي أصبح فيه من المقرّبين. فما هو بربكم التفسير لهذا التناقض الذي نستصحبه على مفارق العُمر؟ وهل منكم من هو مثلي؟، هذه الملاحظات والتساؤلات أرغمتني على مراقبة من حولي فاكتشفت أن جميع المراهقين مثلاً يحبون تناول الأطعمة الخفيفة والسندوتشات الجاهزة، وفي المنزل يفضلون (البطاطس المحمرة) و(الطماطم بالجبنة) و(المكرونة بأنواعها)، ويحبذون المياه الغازية بكل أنواعها التقليدية والمبتكرة على العصائر الطازجة والطبيعية، وقد كنت يوماً مثلهم، إلا أنني عُدت فأدركت المخاطر المُحْدثة بفعل النشويات والحوامض والكافيين، فأصبحت أكثر اعتدالاً في غذائي، وأحاول الآن أن أفرض برنامجي الغذائي هذا على أبنائي فيتمردون ويتمنّعون فأغضب وأثور وأحتد حتى أتذكر أن مزاجي العمري لا يوافق أمزجتهم العمرية، ولا أعرف هل أتركهم للمرحلة يعيشونها إلى جنب، أو أحاول أن أعدِّل أمزجتهم؟ غير أن (أمي) كانت تُعاني مثلي الأمرّين ذات يوم معي ولم أكن أستجيب وهذا من مزايا الأمومة التي تجعلنا نقدِّر مجهود أمهاتنا ونحترم وجهات نظرهن. ولكن في وقت متأخر وبعد أن نكتوي بنيران عناد أبنائنا وعذابنا معهم. { وفي الماضي كنت مولعة بالاستماع ل(فيروز، وهاني شاكر، والكابلي) لأؤكد أنني مثقفة وناضجة وأقرأ أشعار (الفيتوري، وجويدة، وسند، والرائع نزار قباني) والأخير أحسب أن كافة الأمزجة تتفق عليه على مدى عمري طويل وبمختلف مراحله. أما الآن فأنا على استعداد للاستماع (لشكر الله، وشيرين عبد الوهاب، وحماقي، وجمال فرفور) وقد يبدو الأمر معكوساً، فعمري الآن يتطلب شيئاً من الأغاني الوقورة الهادئة، فلماذا أحب هذا الصخب الجميل الخفيف؟ إنه مزاجي العجيب الذي لا أعلم مدى ارتباطه بالضغوط التي نعايشها وهل يهدف بغرابته هذه للهروب من المتاعب والهموم ليخلق لي توازناً نفسياً ايجابياً؟ ربما. { حتى صديقاتي وأصدقائي اختلفوا، فقد كنت أحب الأصدقاء المرحين. أصحاب الظل الخفيف الذين يتمتعون بروح المغامرة ويسرفون في الثرثرة و(الونسة) وإقامة البرامج والرحلات، وكنت أنفر من أي إنسان هادئ منزوٍ وأتهمه بالغرور أو ثقل الدم، حتى بدأت مؤخراً أكتشف أن البراميل الفارغة وحدها تُحدث ضجيجاً كبيراً، وأن الهدوء والانزواء صفتان متلازمتان مع الحكمة والوقار. لذلك فأعز أصدقائي الآن على قدر من الهدوء ويميلون للصمت ويفضلون الابتسام على اطلاق الضحكات المدوّية. وقد لا أكون أنا اختلفت كثيراً فلا زلت أراني مجنونة وثرثارة وعصبية، ولكن زوجي عكسي تماماً، وأفضل صديقاتي كذلك. وهذا يعينني على حياتي ويمنحهم القدرة على احتمالي واحتوائي. { وكنت في بواكيري لا أحب أعمال المطبخ وتنبّأ لي الجميع بالفشل الذريع في إدارة مملكتي الزوجية، وبدأت حياتي الزوجية فعلاً وأنا لا أعرف العلاقة بين (البصل والحلة) ولا أرغب في معرفتها حتى أرغمتني الحياة على تبديل أولوياتي وتغيير مزاجي فبدأت أتعلم كل شيء وأسعى لاتقانه في سبيل توفير حياة كريمة وناجحة لزواجي، وعملاً بمبدأ (ماحكّ جلدك مثل ظفرك). فمسؤولياتنا مهما كانت لا يجب أن يقوم بها سوانا وإن وجدنا من يعاوننا عليها، فيجب أن نعلم أنه تعاون إلى حين وسينتهي مثلما انتهت كل التفاصيل والأهواء العجيبة التي صاحبتني لأوقات طويلة وتبدلت كل أمزجتي واختلفت وأصبحت مجرد ذكريات، غير أنني ورغم مروري بتحوُّلات جوهرية كبيرة لازلت أحب (الشوكلاتة) وأحن إلى حضن أمي وأبكي لأي سبب. { تلويح: العطر عطرك.. والمكان هو المكان..لكن شيئاً قد تغيّر بيننا.. لا أنت.. أنت، ولا زمان هو الزمان!