كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون ينقلون معهم عاداتهم في الأعراس إلى مصر.. عريس سوداني يقوم بجلد أصدقائه على أنغام أغنيات فنانة الحفل ميادة قمر الدين    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالفيديو.. جنود بالدعم السريع قاموا بقتل زوجة قائد ميداني يتبع لهم و"شفشفوا" أثاث منزله الذي قام بسرقته قبل أن يهلك    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    السودان يردّ على جامعة الدول العربية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    البرهان يزور تركيا بدعوة من أردوغان    المريخ يحقق الرمونتادا أمام موسانزي ويتقدم في الترتيب    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    تقارير: الميليشيا تحشد مقاتلين في تخوم بلدتين    جنوب إفريقيا ومصر يحققان الفوز    مجلس التسيير يجتمع أمس ويصدر عددا من القرارات    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    سيدة الأعمال رانيا الخضر تجبر بخاطر المعلم الذي تعرض للإهانة من طالبه وتقدم له "عُمرة" هدية شاملة التكاليف (امتناناً لدورك المشهود واعتذارا نيابة عنا جميعا)    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    مكافحة التهريب بكسلا تضبط 13 ألف حبة مخدرات وذخيرة وسلاح كلاشنكوف    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    تونس.. سعيد يصدر عفوا رئاسيا عن 2014 سجينا    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر عاطف خيري : هل تستطيع البنت أن تتنفس أنوثتها وتحصي أوجاع فستانها؟
نشر في الأهرام اليوم يوم 26 - 04 - 2010


«يا بت
صباح الطير
وين البلد ركت؟
ما عاد هواك
يفتح في الكتمة
شبَّاك النزيف
وين تكيتك
في الغيمة
شطِّيف النجوم
ريف الجسد
صدرك سبلوقة اللبن الحريف».
بعذوبة متناهية، تتسلل تساؤلاته العميقة إلى الدواخل، خارج ما هو مألوف، متخطياً تلك العادية التي حرمت أولئك المتشاعرين من نعمة التميُّز، محتشداً بموسيقى الشعر النقي، محتفلاً بصوره الشعرية؛ تلك التي تحرِّض على حرية التأويل، وتحطِّم جدران سجون العبارات المكشوفة، إلى درجة البداهات، متحكماً في اجتراحه الشعري، يعلن عاطف خيري خصوصيته كشاعر:
«ويا هدهد هنا
مرَّت مراكب نوح
محملة بالبخور
مين اللي شال
من طاقة الطين البعيد
قنديل حبيبتي
وطيَّب الجرح المثير؟
مين السرق
من بابها
مفتاحو الملوَّن
والصرير؟
منهوبة مقبرة الفواكه فيكِ
قولي معايا
يا شرف القبايل جَرْ
الشاف تباريح الطلح
في النار
شافني مرقت
من عندك ضرير».
في حواريتي الموسومة ب(نوافذ مفتوحة) مع الشاعر عاطف خيري، التي نشرت في جريدة الخرطوم - نسخة القاهرة- في بدايات التسعينيات من القرن المنصرم؛ يتحدث عاطف خيري عن طفولته:
«يصعب عندي حتى الآن الحديث عن الطفولة كحالة هي باستمرار قابلة للتداعي، ربما لأنها دخلت في كيمياء أكثر تعقيداً أضف إلى ذلك أن معظم تروسها الدقيقة التي تشبه جوف ساعة اليد ما زالت معافاة وتعمل، ولكن دائماً هنالك مشاهد لا تتكرر مرتين عند طفل ينمو له شارب وتستوقفه إعلانات السينما والكتب النافرة وامرأة تغيب في طريقٍ شاحب كرائحة صناعة (الحلو مر) قبل رمضان، هذه المشاهد لا تتكرر، ربما تشير إلى طفولة تتماثل مع حياة معظم أطفال السودان، ولكن قد تعيش في مدينة - قرية، غرق خلقٌ كثير في نيلها، وتاه نفس العدد في صحرائها، فتصبح (كصامولة) صغيرة بين فكي مفتاح إنجليزي، وتبدأ عليك رقابة صارمة تحذرك من الذهاب إلى النيل، يوازي ذلك أحاجي وأقاصيص يبدأ بثها مساءً إلى ما شاء النعاس، عن مدن بكاملها تحت الماء، وجنيَّات وتماسيح، فيضانات وهدَّام، وهكذا نشأت علاقة قائمة على الأسئلة، أفتقد النيل، واتفقده دائماً، ويلي ذلك لقطة بانورامية متمهلة بطول قطار السكة حديد، وعدد عرباته، لأن الهجرة إلى - محطة القَطَر - عند سماع صفارته المؤكدة قادماً من رحلة تصل أحيانا إلى أسبوع؛ يفعلها الجميع، بما في ذلك الحيوانات والطيور، ليتم شحن المكان والذاكرة بغربة أليفة، التسكُّع في محطة القطار، والجمعية الأدبية بالمدارس، والهزائم المتكررة في فريق الكرة، ودخول السينما، وجدي جالس على كرسيه يوزع (الحكاوي) والشتائم (بالسوق التحت)، وذات صباح تساقطت قطعتان من الثلج على - الطشت - المليء برغوة الصابون، حيث تجلس جدتي تغسل بعض الثياب، كان شتاء مذهلاً، وهو نفس اليوم الذي تم فيه طردي من المدرسة بدعوى أن سني ما زالت صغيرة، وتم قبول أصدقائي فجلسوا على المقاعد والأدراج ذات الرائحة الخشبية التي تجعل المدارس مكاناً مختلفاً عن المنزل، ذلك اليوم كان مأتماً، ولكن جدتي نفضت الصابون عن يديها، وأشارت إلى مدرسة جديدة وهي مهملة ولا يهتم بها أحد، ورغم تلك الأمطار وذهول الناس بتساقط الثلج؛ أصرت على الذهاب، وتم تسجيلي، لعل هذا بداية الإحساس بالوحدة، أو نهاية الإحساس بالشُلَّة».
«مرت مراكب نوح محملَّة بالملوك
ركعت على الموج الجنود
من كل جندي تفوح ضحية
ودم مشتت في الأبد
دسيت جبهتي من السجود
بكى في مخاض الخوف ولد
اشتبهوا فيني ورا الجبل
شافوني دسيت الهداهد بالزبد
صفا
انتباه
وقعت من الهدهد بلد
نهبوها واتقسموا الحدود
ومرت مراكب نوح محملة بالطيور
واقف مع نوح الغراب
ينضم ويأشر في اتجاه
باقي الطيور يتوسوسو
إلا الحمام يتوضأ مارق للصلاة
القانقرد في حزنو
يغزل شالو صوف
الطواويس شارَّة قمصانا المزركشة
في الضحى
الزرازير بي عراريقا المغبشة جات عليّ
أرجيني يا صالحة
ومشيت في الموج».
في مساء الثلاثاء 13 يناير1999م يزدحم المركز السوداني للثقافة والإعلام في تقاطع شارع (مصطفى النحاس) مع شارع (مكرم عبيد) بمدينة (نصر) بالقاهرة، يزدحم بالقادمين الحاملين في الدواخل أغنية مصطفى سيد أحمد، كترياق ضد هذا الواقع المسمم بالخيبات السياسية، وجلَّهم من الشباب، كانت هي ثلاثة أعوام مرت على رحيل هذا المغني العظيم، وهو يذهب نحو أسطورة خلوده، يتناثر هذا الحضور الكثيف الحميم بين الصالة ومكتب إدارة الفنون وشرفة تطل على شارع لا يخص الجميع إلا بمقدار من ضجيج وصخب من أضواء الكهرباء، تحسّه يخطف الأبصار، ولكنه يجادل ذلك الشجن الذي يسكن في متاهات التفاصيل الحميمة، يتناثرون وينثرون أحلامهم وأمانيهم وتفاصيل غربتهم في المكان، يهربون من هذيان السياسة، تلك التي خربت الحياة في السودان، يهربون نحو أغنية هميمة، تلك الأغنية التي تحلم بأن تتحول الرواكيب الصغيرة إلى أكبر مدن، من بين تفاصيل هذا الاحتشاد الجميل المحتفي بأغنية مصطفى سيد أحمد؛ من خلال هذا الاحتفال الذي نظمه اتحاد الشباب السوداني - فرع القاهرة، بصالة المركز السوداني للثقافة والإعلام؛ ألتقي بالصديق الفنان التشكيلي حسان علي أحمد وندخل في سراديب ثرثرة حميمة نضيئها بشموع من ألفة ومحبة، برغم أنه - حسان - لا زال يحمل على ملامح وجهه حزنه على رحيل والدته، وحكايات عن حال السودان، وداء الملاريا الذي استوطن بخبث متعمد قرى حلفا، ومن بين تفاصيل تلك الثرثرة الحميمة؛ يخبرني أن بحوزته كتاب عاطف خيري الشعري الجديد (الظنون)، أمد يدي متلهفاً وآخذ منه الكتاب، الغلاف ناصع البياض، ويتجمل بلوحة من أعمال حسان علي أحمد.
«النار، النار ستحرق أطراف نارك
أصعد هاوية من نشاز و قلق، أجرُّ قطيعاً من التجاعيد، تجتر ضجر الليلة الفائتة، أمدُّ لساني للأغنياء من حفدة الغبار، أبتلع كلمة تساوي بالضبط ما يحدث حولنا، والشارع وقت ما ننشغل بتفاصيل صحبتنا؛ يبدو طيباً، والمغيب في انتظارنا، كأنه لن يفعل الشفق، إلا حين تكونين بجانبي
كأنما نزلت فجأة من غصن رحيم
أصعد هاوية من سؤال وفقد
تتسلل أقمارك الحانية ضلال عتمتي، ويضاء رصيف الذكريات شيئاً فشيئاً، أعرف كم من الوقت مضى عليّ وأنا أحاور نجمةً عصية تقطن سماء الوهم مني، وأعرف كم من حقول القطن صبغتها بلون لا يخص التجربة.. لا يخص الحقل، وأعرف كم أنا صريع للهرب.
كم أنا مريض بك، في الغياب والحضور.. سيان هذا الذي يكون
كم مضى من الليل وأنت تعتِّقين هذا الصمت؟
كم مضى من التداعي وأنت تنتشلين حروف العلة من اعترافك أمام كاهن البوح؟
كم مضى منك
وأنت في ملكوت هذا الهرب؟».
أعود إلى الشرفة، وأجلس في بهاء دواخلي فرحاً بهذا الكتاب، أقلب الصفحات، وأوتار عود الأخ علاء الدين إبراهيم تأتيني كخلفية عذبة، كانت تلك الأوتار تبحث عن ملامح أغنية لمصطفى سيد أحمد، أعرف أنها ليست صدفة أن ألتقي بكتاب عاطف خيري في نسيج احتفالية تخص مصطفى سيد أحمد، أراني لست مجبراً كي أشهر ما كتبته عن علاقتي بالكتب من خلال نص التداعيات (ميتافيزيقية الكتب)، أقرأ متلهفاً و طامعاً في أن يمنحني عاطف خيري عذوبة روحه الشاعرة بينما أصداء موسيقى أغنيات مصطفى سيد أحمد تأتيني هازمة ذلك الضجيج وذلك الصخب الذي يبثه الشارع حين يصلصل فيه حديد ترام (روكسي - مدينة نصر)، وأعرف أنني أجلس الآن على شرفة تخصني في دار أليفة بُنيت بالذكريات:
«هي الأرض سلة المهملات، وهم باعوا
ويبيعون، فادرك سماءك يا خالقي
قبل هذا المزاد، بعد هذا الجرس
الموت لم يعد يفقس خطافه
تحت فك المريض
صار في ضحكة الأصدقاء
في الخطاب الذي لن يصل
وتحت صك البريد
قبري لم يعد قبري
ومن يبكي علي، عليك، يدري
أنك حين يفزعنا الحنان
ستصعدين ضفيرتك
وأنني قرد وحيد
....................
آية الهارب في الأرض
أقداره: أسوار
يجلو على المرآة وطناً
سجنه إذ تتهشم المرآة باب
وخراب الذي يشتهي، أفعى
تتسلق ساق التي تنتهي،
بلادٌ كلما ابتسمت، حط على شفتيها الذباب
هي من قايضتها
جرحاً برمح
شمساً بقمح
تعاتبك على رغبةٍ في الرحيل
بعد حين يتقاذف الدود أخبارنا
فانظري، إلى أي دود يقود العتاب؟».
أوتار العود تنتمي إلى طيور مصطفى سيد أحمد، تلك التي لا تملك جوازاً للسفر، ولا تعرف لها (خرطة)، بينما عاطف خيري يعلن أن «للطيور في حنانها مسلك فريد، وإن للحنان في البشر عدد من المنازل، بينما للطيور منزلة واحدة، يولد العصفور عليها ويموت، إذ أن الطير حاذق، وله من البصيرة ما للأنبياء، وأن الطيور في رحلة من الحنان لا تنقطع، وأن من أراد رؤية الحنان لبرهة؛ انتظر حتى يقع عصفور في شرك، فاسرع وانظر عينيه».
وترٌ يشفُّ مجادلاً نغمته كي ينتمي لذلك المعنى الذي هو رهان بين من يمشي عكس التيار متحدياً فكرة الغرق، وصوت (السماني) حفيد الشيخ البرعي، يلتحم مع دندنات العود متفجراً بالغناء، وعاطف خيري يحدثني عن «حبيبة تمشي بحذر على بساط الارتباك، عن فرقة من عازفي الحرائق يحملون ساكسفوناتهم المتوهجة، عن شجرة تقف وكأنها ما أغوت أحداً، كأنها ما عاشرت المشاهير من الطيور، عن كلمات تبلغ أنوثتها في الهمس، عن كيف تحضر الدموع في مقلة الكائن الحي، عن إبرة منسية بثوب واعظ صغير، عن أولئك الذين يؤجرون دراجاتهم على هامش الأشواق، عن تأوه الألمنيوم بحلة الحلب، عن وشم في ورك غيمة، عن جوقة تتكالب على النشيد المريض، عن محبة تعرق على مهلها فوق طلح حنون، عن جسد يخمش حصته من تراب بليل، عن شاطئ من عجين الغواية، عن احتمال الأسى في صنوف المهازل، عن سماء الظنون القديمة، عن موجة تصفع الروح، عن صبية تتنفس أنوثتها و تحصي أوجاع فستانها»،
هكذا في طقس من تجليات خلود مصطفى سيد أحمد؛ ألتقي بعاطف خيري مجترحاً قصيدته الجديدة، مستوطناً شفافية التعامل مع اللغة العربية الفصحى، كتاب عاطف خيري الشعري (الظنون) جاء بعد كتابه الأول (سيناريو اليابسة) و هو اجتراح شعري يعتبر إضافة حقيقية ومتميزة لقصيدة العامية السودانية، يقول عاطف خيري في حواريتي تلك معه «بإمكاني الحديث عن تجربتين مختلفتين إلى حدٍّ داخل مشروعي، مع ملاحظة أن مجموعة ما كتبت قليل جداً حتى الآن، التجربة الأولى في المجموعة من القصائد عندي، التي تتميز بقصرها وغنائيتها الصارخة، وهجرة تجارب شعرية أخرى إليها، أما التجربة الثانية فهي تبحث عن موقف نقدي كامل تجاه الكتابة باللغة العامية خاصة، والفصحى عامة، فما نتج عن كتابة قصائد تتميز بنفس ملحمي، وعدم تقيدها بأي قانون سابق، وهروب من الغناء السهل مع التمتع باكتشاف قدرة رسم الصورة الشعرية دون الالتفات إلى الإيقاع، ومحاولة الإمساك بإيقاع داخلي يتيح طول النفس، وحرية التراكيب داخل القصيدة الواحدة، تم ذلك داخل اكتشاف محدد يتتبع سير القصيدة المكتوبة بلغة شعبية من أنها تكتب داخل نفس غنائي محدد، وكان قدرها أن تنأى مما نتج عن ذلك من اجترار وتشابه في كل ما كتب من شعر دارجي وفي الخروج من هذا التشابه لا بد أن يهرب الشاعر إلى شكل ما يميز كتاباته، ولكنني أعترف أن هذا الموقف النقدي لم يتحقق بشكل كاف داخل ما كتبت، ربما لأنني اخترت له حقلاً لم يحرث جيداً، أضف إلى ذلك أنه لا بد أن تكون هنالك إشكالات داخل الكتابة الدارجة ناتجة عن عرج خفيف في سيرها نحو الآخر ودرجة استقباله لها، ربما لأنها محمولة على السمع أكثر من القراءة، ولكن الدارجة السودانية في قمة خصوصيتها تلتقي مع الفصحى في منعطفات كثيرة، وأحياناً تعانقها وتذوب فيها ولا يفترقان، بالنسبة لي كتبت مجموعتي الثانية متأثراً بقراءات ليست دارجة بتاتاً مما احتاج إلى مجهود غريب ومكلف للحيلولة دون الدخول في القصيدة الفصحى وربما ساعدتني هذه العملية الترسيبية في إنتاج هذه المجموعة داخل شعرية لها ملامحها التي تخصني تماماً وبوعورة ربما أصبحت مأهولة الآن».
«والشمس فوق حبل الغيوم
شرَّت جلاليب النعاس
ناشف غرب مبلول شرق
والمطرة زي شفع العيد
تدخل غرف كل البيوت
حكمة الجوع
الشرح للأرضة
كيف تقرأ المرق».
يبدو أن ذاكرة الشعراء متصلة، ذلك الاتصال الشفيف الذي يرحل عبر الأمكنة والأزمنة، ذاكرة لها القدرة على الاختراق، على الرجوع إلى الوراء، على الاستشراف والحلم بالأيام القادمات، ولأنها كذلك؛ فهي لا تعترف بالجمود، ولا تراهن على الثبات، ذاكرة تمارس المغامرة ولا تتهيب التجريب، أقول ذلك و في بالي ذلك البحث العميق والمتعب الذي يمارسه شاعر مثل عاطف خيري وهو يتجول في عوالم شعراء المسادير وشعراء الدوبيت، يطربه (الحاردلو) وتأسره عوالم (ود شوراني) ولا يملك إلا أن يتقمص تلك الروح الشفيفة فيحلم أن يكتب مساديره الخاصة، وها هو عاطف خيري يكتب مسداره الخاص:
«باب الروح متاكا
انسربي
صاحيات الحدايق، ارعي
قبَّال منجنيق الخوف
يعاود ضربي
قبل الطير
وصعلوك النحل منكبي
هشي العافية
من تمري المخمَّر وعبي
وزي ما النيل طبق مركوبو
مارق للبحر مدَّبي
ادخلي في الجسد محمومة
بالمرض اليحير طبي
وافتحي باب ضريحك
يدخل الدرويش مغبي
وادبغي جلدي
بي قطران مهيِّج لبي
زي أتر النعال
فوق الرمال متربي
كان بهل الجمر منقد سماي
شن ذنبي؟
ما دام الرماد
وسط الشرار متخبي
لا بد من فضيحة النار
تولع جنبي
تهدي الليل
يهز ضنبو المشاكس كلبي».
إنها دراما نقية، تلك التي ينثرها عاطف خيري، وبمقدرة عالية في جسد القصيدة العامية والفصحى، ذلك الجسد المتماسك بحيوية الأعضاء وروح الفكرة العميقة:
«قاعدين في ضل النار
داسيني فيكي نَضُر
وفي الغفلة جو الكفار
طارت حمامة الغار
لاقوني ناشف و مُر
ما ذنبو جلد الطار
لو غنو بيهو شُتر
ما تخافي الله معاك
وكل الملايكة سُمر».
هل ترى يا عاطف خيري، في مخاض الخوف و في البلاد التي كلما ابتسمت حط على شفتيها الذباب، هل تستطيع البنت أن تتنفس أنوثتها وتحصي أوجاع فستانها؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.