ظاهرياً سيبدو للحديث منحى قانوني في ما يخص الشكاوى والمسؤولين عنها.. لكنه في الأصل له علاقة بالمناحي الإنسانية أكثر وأقرب. «فلمّا» يدخل «الزعل» مداخل الهواء في النفس والروح وتبدأ مستصغرات الشرر في التحمية للاشتعال يكون هناك شيطان ثقيل الظل يوسوس لك بأن تقوم بشكوى من «زعلك» إلى جهة ما أو شخص ما يستطيع أن يأخذ لك حقك كاملاً ومكملاً وبزيادة ! وتبدأ نفسك في تسريع قائمة الأسماء في ذاكرتك علك تجد شخصاً ما ذا جهة نافذة في الشكاوى فتشكي (زولك) وتنتظر العقوبة الرادعة.. ولأن معظم حالات الشكاوى تدخل من باب ضيق الزعل والروح والأخلاق وتبدأ بالتمدد في نواحي مكان الزعل وتنشطر إلى خلايا جديدة كل ذات كلمة «زعل» أو إساءة، فإن محاولة الإنسان لملمتها و(هجرها) في مكانها لا تبرحه سيبدو جهاداً قاسياً خاصة في ظل غياب أجاويد كرماء القول سمحاء النية. وشكاوى الناس القانونية ذاتها تتجه مؤخراً إلى بوابات المسامحة والعفو الإنساني لسبب أبسط من أن يعقد حياتهم ويعطلها، وهو طول مدة مناقشة وتبرير وتمريرالشكوى ثمّ البتّ فيها، لا لشئ إلا لأنه لا يظلم الشاكي والمشتكى على السواء، لهذا ظهرت بشكل واضح جداً الفواصل الإنسانية في المحاكمات التي تحفّز المتخاصمين للنظر في شكواهم بعين العقل التسامحي والجلوس على أرض العفو (وتقطيع نجيل الزعل واللّوم) للوصول إلى أفضل تسوية وترضية تريح الأطراف كلها. أما أحلى شكوى على إطلاقها فهي الشكوى المستمرة من الصغار فيما بينهم بأن: (عايني ده عمل لي شنو) ؟ أو: (ده شال مني شنو) ؟ وهى شكاوى لا تنتظر أبداً فتوى ولا تتوقع أستئنافاً أو مرافعة، إنها شكاوى تقال لإثبات واقعة ستمضي بعد ثوانٍ قليلة إلى حال سبيلها الطفولي ولن تكون حتى في الذاكرة البعدية لليوم التالي، لهذا ربما تردد الحبوبات دعاء غريباً في تفصيلته جميلاً في تفاصيله لأحفادهنّ المأثورين بعدم شكواهم الكثيرة: (هميمك يكون عن غيرك) - آمين - ! وأقبح شكوى بالطبع هي التي تأتيك من ناسك وتذهب الى أعدائك فيتطاولون بها وألسنة أحمالهم تصرخ (دي من ناسك)! فتصيبك حينها أسوأ وأبشع المشاعر الإنسانية التي تبدأ بالعجز والغدر ولا تنتهي إلا بالأمراض غير محددة التشخيص! ولا يقيك من شر مثل هذا الزعل والشكاوى إلا الاستعانة بالبارئ الذي لا يعرف أبداً المحاباة ولا المجاملة والنفاق الاجتماعي ولا يأخذ شكواك إلا بحقيقتها (ظالماً أو مظلوماً).. الله سبحانه وتعالى المعين للجميع وبدون فرز مناصب أو مطامع مكاسب.. وهو الموجود على مدار الساعة وفي كل مكان تعتكف فيه بالبكاء أو الشكوى.. لهذا كان أجمل أمثالنا السودانية وأعمقها في الحكمة هو: (الشكيّة لغير الله مذلّة) ! والمذلّة المقصودة هي في ذات تلك المشاوير والاتصالات والهواتف التي بها تبحث عن معين يعينك في شكواك و«يجيب ليك حقك».. إن لم تكن في إسماعك نصائح - أو فضائح - أنت في غنى عن تذكيرك بها في لحظة زعلك وغضبك الشاكي.. وبالكاد تستطيع الاستماع لها بانتباه لأنك ببساطة «زعلان شديد»! والأغنيات كذلك لم تنجُ من الحالة الإنسانية «الزعلية» ولو أنها قبعت في حوش الحبايب (اللفتو الخلايق وقطعوا العلايق) ولم تتمدد إلى بقية العلاقات الإنسانية التي يطالها الزعل وبشكل معقّد أكثر من زعل الحبيب! (لمين أنا أشكي ألم الفارق وأحكي لمين أنا؟) - رائعة الراحل أبراهيم عوض .. (لو في الغرام قاضي والله لاشتكي) - أغنية الفنان السعودي محمد عبده ويرددها سودانياً الموسيقار محمد الأمين.. ليس لأنه لا يوجد من يشكو إليه لكن لأن (القول بيجيب فضائح) وقد «يجيب الحق على من تشتكي منه» ! وفي كل الأحوال الإنسانية والقانونية ينجح فعل واحد هو المسامحة، فإذا كانت نفسك ذات سماحة وبراحة في تقبل «الزعل» فإنك ستستعيذ بالله من شيطان النفس الآمرة بسوء الشكوى وتقبع تنتظر أن يأتيك (زولك) مسامحا أو تذهب إليه كما قام السلف الصالح بالمبادرة بالتصالح لكسب الحسنات وأجمل الأوقات والبسمات.. { مباركة الجمعة بدون زعل.