في ظل ما نعانيه من تصدع وأزمات ضاعت الكثير من المعاني، ولعل من أبرز هذه المعاني التي انهارت هي الانتماء أو الشعور بالانتماء للوطن. والانتماء لهذا الوطن كلمة فقدت هويتها واضطرب مفهومها ومدلولها وغدت معادلة غير متزنة الأطراف نتلقاها دون أن نعيشها واقعاً، نسمعها عبر الخطب ونطالعها عبر الصحف دون ممارسة أو تجربة حقيقية. إذن السؤال: لماذا ضاع هذا المعني؟ والإجابة تكمن في أن ضياعها نتاج طبيعي لضياع الركائز الأساسية والأركان التي نحتاجها للشعور بالانتماء، ودون شك هناك أشياء أساسية تمتد لتصنع ذلك النسيج الذي يعمق في دواخلنا هذا الإحساس، وهذه الأشياء هي (البيت، العمل، الحرية، العدالة الاجتماعية، وكرامة المواطن) وكل هذه الاشياء مجتمعة بمثابة المثيرات والمحفزات الحقيقية التي تجعل الانتماء حقيقة ماثلة تتكامل بتكامل هذه العناصر، وإذا انتفت هذه العناصر يتحول الوطن لمجرد أرض ممتدة دون أن ينتابنا شعور حقيقي بحب هذه الأرض، ويوم أن نغادرها للبحث عن هذه العناصر في أرض أخرى لا نترك خلفنا أوتاداً ثابتة تساعدنا للحنين إليها من جديد. وبالعودة لمتطلبات الانتماء نجد أنه من الصعب أن نفرضه على مواطن جائع، لأن اهتمامه وانتماءه سيتحول بشكل تلقائي الى الرغيف، كما هو الحال بالنسبة للمشرد الذي لا مكان له، فتفكيره سيختلف وهو يبحث عن أمتار تأويه في وطن يعيش فيه حياة المنفى، وهذا ينطبق على تحقيق العدالة الاجتماعية وسيادة حكم القانون على الجميع في جذب المواطن وتحفيزه، وأيضا منحه مزيداً من الحرية وخلق فرص العمل، ومع الأسف نحن نفتقر لكل هذه المتطلبات في هذا الوقت بالذات، وقبل ذلك كله يستحيل الانتماء إلى تربة مجدبة من الفكر أو مجتمع يتعامل مثقفوه ومترفوه مع الفكر في المناسبات والصالونات دون أن يصلوا إلى إنسان الشارع، ويخرج فكرهم وسط هذا الشعب.. ومن واقع ما أسلفنا يتضح أن الحمل الأكبر والأكثر يقع على من يمسكون بزمام الأمور في هذا الوطن لإفساح المجال لهذا المعنى للعودة من جديد بتحقيق ولو الحد الأدنى من متطالبات الانتماء وتوفير مستلزمات المواطنة بمفهومها الشامل، وعليهم أن يدركوا أن هذا الشعور يحقق المعجزات في سبيل الدفع بمسيرة الوطن إلى الأمام، وضياعه قد يقود إلى ما لا يُحمد عقباه، وبدا جلياً وواضحاً إرهاصات ذلك بما نعانيه اليوم، فضياع الحقوق التي أشرنا إليها أدخلت البلاد في محنة وأزمات. إن الانتماء لون من ألوان الحب والتضحية الصامتة في سبيل مجتمع أبرز سماته العطاء.. فالمجتمع الذي تتوفر له سبل الانتماء لاشك أنه سيكون حريصاً على أداء دوره بكل تفان مهما تعاظم، وقديماً استطاعت الكثير من الشعوب - ولا زالت - أن تقدم الملايين من أبنائها من الذين قدموا أرواحهم دفاعاً عن مدنهم وأوطانهم، وصمدوا لسنوات طويلة حتى حرروا شعوبهم وأوطانهم، وكانت معجزتهم الحقيقية لتحقيق ذلك هو الانتماء. والانتماء عند المجتمعات التي تحققت فيها الحرية والعدالة الاجتماعية والعمل وكانت كرامة الفرد فيها هي عنوانها، نجده يمثل لهم طفولة مضيئة وصبا دافقاً بالحياة وشباباً حالماً بالغد وسنوات مشدودة بعاطر الذكريات، فضوء الطفولة لاينطفئ في النفس، وسعادة الصبا تبقي شعلة في العقل، وحلم الشباب يغدو حياة متجددة الأمل، وهي كلها من روافد نهر الانتماء العظيم. إذن هناك من يكون انتماؤه للأرض التي تعطيه أو المكان الذي يلهمه سبل الحياة الكريمة، بغض النظر عن الجنسية، فهو يرى أن الجنسية التي لا تمنحه كل هذه الامور لاتعدو أن تكون حبرا على ورق، لاغير، وهناك من يتجه الى الارض ذات الفكر المشع التي ربما تهديه الى سواء السبيل، وهنا تكمن مشكلة العصر التي تواجه المجتمعات النامية مثل السودان، وهي الهجرة، هجرة العقول والكفاءات، التي تبحث عن أرض مشعة تحترم العقول المستنيرة، فيجدون ما يصبون اليه في الهجرة الى أوربا وأمريكا، فيعمق هذا في دواخلهم الشعور بالانتماء إلى وطن هو ليس وطنهم لكنها أرض أعطتهم أشياء لم يجدوها في في بلادهم. إذن السؤال الكبير والمهم: هل الارض التي تمنحكم الانتماء يمكنها تكون لكم بمثابة وطن؟