رؤية ذائقية لفن الكابلي.. رجل نذر نفسه لفنه ونذر فنه للوطن هاشم طه محمد لكل من لا يعرفه سوى باللقب العائلي، هو عبدالكريم بن عبدالعزيز بن محمد بن عبدالعزيز بن يوسف بن عبد الرحمن المكنّي بالكابليّ نسبة إلى كابول الأفغانية. وُلد لأبوين يتعشقان الفن والأدب في أوائل الثلاثينيات من القرن المنصرم، فنشأ في رحاب كله سماحة وتواد وشغف بالمعرفة ففُطر على حب البحث. أشرقت طفولته الفكرية على كونٍ تملأ أرجاءه الموسيقى فتعرف على لغة الجمال وبدأت تتشكل في دواخله أبجديات الصيغ اللحنية وهو غرٌ طرير. تنقل "أبو عزيز" (كما يستطيب أن يُنادى) في بواكير صباه بين القلابات والقضارف وكسلا وبورتسودان التي شهدت أوائل بزوغ نبوغه الفني لافتا أنظار المربي الجليل المرحوم ضرار صالح ضرار أثناء أداء الأناشيد المدرسية، ثم التحق بمدرسة التجارة بأم درمان وكان قد شب عن الطوق وبدأ رحلة الإبحار في عوالم الغناء مُسرياً عن خلصائه من الأنداد عند جلسات خصوصية السمات. كان لتفرّد الفترة النصفية للخمسينات بأحداث متتابعة لحركات التحرر العالمية ابتداءً من مؤتمر باندونج وقيام منظومة دول عدم الانحياز مروراً بتتابع استقلال الدول الأفريقية ومن ثم بروز حركات التحرر في أمريكا اللاتينة أثراً بيّناً في خلق مناخات موائمة لتيارات الفكر النهضوي وممهدةً لبروز النزعات القومية لدى أقطار العالم الثالث "كما يسمى"، ولم يكن السودان استثناءً من ذلك المشهد، فتوشح برداء الاستقلال وشهد أول ديمقراطية برلمانية على النسق "الويستمنستري" بحسبانه الأقدر على توفير دولة قومية تتسع لمختلف أنماط التعددية السياسية والإثنوجرافية فيها، وكناتج بدهي فقد وفّرت تلك الفترات المخاضية تغيرات ملحوظة حفّزت انتعاش الحركة الأدبية شعراً ونثراً والحركة الفنية بشتى أوردتها وذلك في تجسير متلازم مع الموروث العام من إبداعات جهابذة الأربعينات والثلاثينيات من الرواد، فكان انتصاف الخمسينات إجمالاً هو جسر النهضة والقطف الداني لكل ضروب الفنون بما فيها الموسيقى والغناء اللذان اتسما بتنوع الإبداع الموشى بالحُلى النغمية والمؤسسان على عامليّ الإستمرارية الثقافية والشكل الموروثي عمن كانت لهم سبُل الريادة كما أسلفنا. وما أوشكت فترة الخمسينات أن تغلق مصاريعها حتى تفجر ذاك النبع الثر مخترقاً كل حُجب الإبداع معلناً عن بزوغ قمرٍ كامل الاستدارة في سماء الفن الرفيع، وما هما إلا عامان بعدها حتى فاجأ السودان والعالم العربي قاطبة وهو يمتد بقامته النحيلة في عام ستين وتسعمائة وألف صوب الأفق البعيد منشداً في حضرة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر تحفته الأزلية "آسيا وأفريقيا" للشاعر المُجيد تاج السر الحسن، والتي بلغ تفاعل الزعيم الراحل معها حد الوقوف مصفقاً لذلك الشاب السابع والعشريني، وكان الزلزال قد أرسى توابعه حينما خرجت إصدارات الصحف السودانية صبيحة اليوم التالي مزدهية أقلام رؤسائها بما انبثق كالحلم في الليلة الاحتفائية تلك، وكان على رأسهم الشاعر وناشر مجلة "الصباح الجديد المرحوم "بإذن الله "حسين عثمان منصور" وصورة الكابلي تزين غلاف المجلة مشيداً بما قدمه ذلكم الفتى اللوذعي من عمل ملحمي ينم عن موهبة طاغية ذرأها الله في جوفه فطابت مستقراً ومقاما، ومبشراً بورود نابغة كان يصوغ أفقاً واعداً لمستقبله الفني. فأواخر الخمسينات كانت أويقاتٍ لها معهودٍ في الواقع المحيط بالفنان الكابلي (وأترابه كذلك) حيث بدت عملية تكثيف الخلق حاضرة الجذوة غزيرة التولد تتهعد فيها هيكلية العمل الفني المنتج جوقة أبوية من أرباب الفن ملحنين وعازفين مشهود لهم بالموهبة الراسخة والكفاية المهنية الرفيعة في تداعٍ يتخذ نوعاً ما من أشكال العمل الورشيّ (إن صحت الاستعارة)، كلٌ يضع على هامش العمل بصمته ليخرج العمل في نهاية المطاف من حيز الفردية الخصوصية إلى حيز المجتمع والجمهور العام في جمالية صميمة الصنع، وقد امتدت تلك الروح الجماعية حتى منتصف السبعينات أو بعدها بقليل. ذلك الجو الإيثاري المنكر للذات يسّر للأستاذ الكابلي الدربة على كيفية تطوير أدواته وانتقاء مواضيع أعماله، كما مكنه من تملك أسرار الإبداع وترويض خاماته نصاً وموسيقى وأداءً وذلك عن طريق الاستزادة من الناتج التراكمي لأعمال أساتذة أسنْ سبقوه عهداً في هذا المضمار. لذلك لم تنسرب أعمال الكابلي في تلك الفترة من تربة الوطن كنبت خشاش لا أصل له، وإنما جاءت مكونة وحدة جزئية لبنية كبرى في سياق عام أملته الوقائع النهضوية على كل من الحركة الأدبية والمسرح والرسم والغناء والنحت، بل وحتى على المزاج العام خلال الفترة السابق ذكرها، إذ لم يكن ما يُتغنّى به عندئذٍ مقتصراً على التذوق عند المتلقي فقط وإنما كانت الوحدة البنيوية للعمل قادرة على خلق الأساس التثقيفي والتنويري المنبثق من قدرات الفنان الفكرية والتصويرية " انظر أنشودة الكابلي حمامات التعاون " فهي وإن لم تحفل بالرصانة المطابقة لقوالب الإبداع اللغوي (وإن كنت لا أجردها من ذلك على إطلاقها)، إلا أنها جاءت استباقية الحث على التعاضد الجمعي ذو الأبعاد الإيثارية لخلق مجتمع تعاوني متآذر متفرد على أصنائه بتمكنه من أدوات الرؤية والاستشراق وتميزه بسعة القدرة على إشباع الموقف المتضمن للدلالة تجسيداً حتى لتحسبن أن ما تتلقفه الأذن هو حراك مسرحي يقف على قدميه شاخصاً أمام المتلقي. تمعن في أنشودة "فتاة اليوم والغد" عندما يبتدره سؤال، أي صوت زار بالأمس خيالي؟، جاعلاً الصوت هو الفاعل والفنان المؤدي في موقع المتلقي (المنادى عليه) وما يلبث ذلك المنادى عليه أن يسلم المسرح للصوت المنادي (صوت الفتاة) فتصدح "إنه صوتي أنا... زادني العلم سنا" ومخاطبة إياه" أوتدري من أنا؟ ابنة النور أنا... أنا من دنياكمُ أحلى المنى"... إلى آخر الأنشودة. ففي هذا الموقف التبادلي مسرحياً يقبع موقف مبدئي للفنان الكابلي في مناصرة المرأة في نضالها لنيل حقوقها تجاه مجتمع ذكوري، ولا أدّعي بانفراد الكابلي بقصب السبق في ذلك الميدان دون فنانين أُخر (أحمد المصطفى وحسن عطية مثالين في يا فتاة الوطن وهبي ياسعاد تباعاً) وقبلهما خليل فرح ومن تلاه، إلا أن قناعة الكابلي بالانتقال برسالة الفن من الحدثية الآنية إلى حالة تثقافية تتغلغل في المجتمع هي التي أملت عليه الطرق الملح على هذا الدرب غير عابئ بصفرية العائد المادي لمثل تلك الأعمال الفنية، فتلك رسالة كُتب عليه أن يؤديها منذ فوعة الصبا متكئاً على ذلك المناخ الديمقراطي العام عند انبلاجه المتقطع متغنياً لنهضة المرأة وللنضال الفلسطيني وللطفولة المشردة ومناوأة الاقتتال وكلها قيم للعدالة يصلح بها المجتمع كيفما تجذرت فيه. الكابلي والتراث في رحلة بحثه الطويلة في منابع التراث قاده وعيه الثاقب بأنماط ثقافة المجتمع للإيغال في مكنونات التراث الشعبي مكتنهاً خفايا العلاقة المتفاعلة والقائمة بين المضمون الكامن في النص والشكل البنيوي آنذاك كي يضفي عليه أداءً ذو رؤية حداثية حتى ليوشك المرء أن يسم العمل برمته إلى لونية الكابلي المستقلة، فقد نجح الكابلي في تكوين رصيدٍ كمي وكيفي حول تاريخينية أغاني التراث وظروف إنشادها حتى أصبح متمكنا من ناصية القول إذا ورد الحديث عن تراث الأجداد فتجده الفكر والقلم والموسيقى، وقد اشتهر بأداء العديد من أغاني الفلكلور مبرزاً جهده الخاص في لونية فرادية نلمسها بيسر عند أدائه للعديد من ضروب التراث الشعبي - فخراً أكان أم مدحاً أم رثاءً - فنلحظ منذ الوهلة الأولى أن عمله على البنيان اللحني ظاهر السمات وإن كان يغلب حرصه على الحفاظ على خصائص العمل الأصلي دونما مشاحّة. ثم أننا نلحظ جانباً آخر في موهبة الكابلي ألا وهو الخيال الحكائي (إن جاز التعبير) في عديد القصائد التي تغنى بها وتلك التي احتفظ بها نصاً، كما نلحظ ذلك نثراً فهو متحدث لبق ذرب اللسان فصيح البيان تكمن في دواخله قدرة مدهشة في خلق تآخي بين المتلقي والحدث الذي يحكيه وكمثال حي لذلك نورد أغنية "كنا في حفلة ليلة" فهي مثال لما عنيته بالخيال الحكائي عند الكابلي، فقد تضافرت فيها عناصر الإبداع من إشراك المتلقي في النص المقدم تفاعلاً واستجابة مزاوجاً بين القصة الحدث والقصيدة واللحن في مسرح خارج المسرح. تدرج الكابلي الفني في منظوري الخاص أن تدرج الكابلي الفني جاء مبهماً بل وأستطيع أن أقول بغتة، فلا أجد لديه محطات محورية شكلت قفزات نوعية من مرتبة إلى أخرى، فرصانة التخليق وأساليب الأداء الرفيع وسمته من بواكير بداياته عند نهاية الخمسينات عندما بدأ تشكيل وعيه المبكر في اقتناص النصوص المنهجية والمعبرة عن قضايا تتخطى البعد المحلي إلى البعد الإقليمي ثم البعد الأممي،"آسيا وأفريقيا" للمبدع تاج السر الحسن مثال على ذلك، فإن كان البون الزمني ما بين أغنية "سكّر سكّر" والتي غادر فيها المندرج المألوف من السلم الخماسي ليستعير شيئاً من السلم السباعي إلى أنشودة "آسيا وأفريقيا" نيف من السنين لا يغادر الثلاث، ندرك إنه إنما كان حقاً يثب سريعاً لمرحلة أكثر عمقاً ونضجا، فهاهو يقترب من النبضات الداخلية لفترة الاندياح الأممي نحو تحرر الوجود الإنساني من ربقة الاستعمار القهري وعصر الهيمنة، معايشاً ومتجرماً ومعبراً عنها في أجلّ الصور الفنية فجاء عمله مبهراً ومؤكداً دوره كمبدع خلاق جمع بين العمل الرسالي الملتزم والقائم على مبادئ وأسس يعتنقها وتجربته كفنان يسكب أيضاً معاناته الذاتية المنبثقة من روح تنضح أثناء الفعل من ذاك النهر القابع في الأعماق، فرغم اعترافه الصريح والذي ينم عن تواضع الواثقين بأنه في بداياته لم يكن يعرف المسافة بين (الروندو) و (الكروش) وهو ابن بجدتها، إلا إنه مافتئ ينمي معرفته الموسيقية في جهد دؤوب ثم أصبح أحد المنادين بضرورة تطوير الناتج الموسيقي السوداني برغم ضيق ماعون السلم الخماسي ومازال يتولى تلك الرسالة فلم تشهد همته فتوراً ولم تفتر له حماسة طوال مشواره الفني، ومبلغ ظني أنه الأمل مازال يداعبه بأن تنهض الموسيقى السودانية من وسنها، وإن كان في رأيي وأنا الغير ملم بأبجديات الموسيقى أن دون ذلك تحقق شروط موضوعية وواقعية عدة أراها متباعدة عنا كل يوم. وإحقاقاً لما أقول فقد تم تصنيف الفنان الكابلي في الدرجة الأولى منذ أن أجيز صوته لدى الإذاعة السودانية دون المرور بالدرجات الرابعة والثالثة والثانية وقد كان النظام المعمول به آنذاك أن يبدأ الفنان بالدرجة الرابعة ثم يتدرج إلى الثالثة ثم الثانية والأولى كلما قدم أعمالاً تؤهله لذلك حسب تقويم المسؤلين في الإذاعة وعلى رأسهم الأستاذ متولي عيد ومن قبله علي شمو (على ما أعتقد). ولم يطرق الكابلي الدرب المألوف لتسلسل سلم الشهرة، إنما جاء خياره مغايراً للنسق المتعارف عليه عند كل فنان مبتدئ فاختار أن يطرق باب الأغنية الفصحى منذ بداياته، فبعد أغنية آسيا وأفريقيا هاهو يتغنى بأغنية كسلا للمرحوم توفيق صالح جبريل، والمولد للشاعر محمد المهدي مجذوب، وأغلى من لؤلؤة بضة لشاعر بحريني لا يحضرني اسمه، وكذلك شذى زهر ولا زهر للأديب الراحل عباس العقاد وأغنية سلامٌ أيها القمر المطلُ ثم رائعة صديق مدثر ضنين الوعد وإلى متى ياقلبي والتي استخدم فيها السلم السباعي ثانية وأخريات من فصيح الكلم ليتوج نفسه أميراً للأغنية الفصحى في مكتبة الغناء السوداني. وقد عدّل الكابلي في فترات وجيزة زمنياً من أدواته في سياق عوامل ومعايير جديدة فتكشفت عنده قيم تعبيرية رصينة "انظر ضنين الوعد ثم إني أعتذر" فقد أنجز فيهما الكابلي مسؤولية الإبداع وفق معايير خلت من الغث الطريّ والمعمّى بعمل يتسم بفسحة الرؤية الموضوعية لأشعار الفصحى كرافد من مكونات ثقافته الذاتية حتى رمته عصبة بأنه فنان النخبة، ولا أدري ما الضير في أن يكون أحدٌ ما فنان النخبة فتلك لعمري شهادة تحسب له وليست عليه وإن جاءت في غير ما حقيقة، فمن يعرف سماحة الكابلي كإنسان يدرك أنه يقف على مسافة واحدة بين النخب وبين بسطاء القوم وهو أرغب عن الأولين بالآخرين. أما إن كان ما ألزم إطلاق هذا النعت عليه هو طابع أغانيه ومستوى صنعتها، فذلك مما لا يملك من أمره شيئا تجاهها. الكابلي شاعراً عُرف عن الفنان الكابلي لدى معظم الجمهور السوداني بأنه كاتب جل قصائده التي تغنى بها والتي تزاوج في بعضها بين الفصحى والعامية، ولكنه لم يُعرف بذات القدر كشاعر يكتب قصائد أُخر بالعربية الفصحى ذات خصائص جمالية تنتظمها الفكرة قبل الزخرف اللفظي وهو بهذا كان مدركاً لضرورة الخروج بمسارات فاعلة ومنتجة للقصيدة ومؤطرة في ذات الوقت بالقيمة الفكرية من أجل أن يكون الشعر خادماً للهم المصيري في القضايا المجتمعية وأن يخرج الشعر من مهاد النمطية اللاهدفية إلى نطاق المعرفة والمعاصرة عوضاً عن الإنسحاب نحو الماضوية التي انسلخت زمنياً عن قضايا الواقع. فأعمال الكابلي الفصحى تزخر بلذة النغمة وخصوبة الخيال فهي ليست مجرد فعل فني ذو تراكيب وأوران مسبقة الضبط، وإنما هي طائر محلق يحمل الروح الإنسانية ليحلق بها خارج مدارات الواقع المحدود. قد تخلو معظم قصائد الكابلي من الرمزية حتى لا نكاد نعثر لأثر لها في أي من كتاباته، فهو ينحو للتصوير المباشر دونما تكبيل للنص بمفردات مشفّرة مع التحكم في مساق النص، فهو كما أسلفنا القول يفضل أن يحتوي المنتج على فكرة يوظفها النص كموصل لها للمتلقي خيراً من أن تحفل بالومضات الشكلية التي ربما يصرف ذهن المتلقي نحو الإطار الخارجي للقصيدة دون إدراك القالب التشكيلي للفكرة المستهدفة. ففي قصيدته "الفراش أم الزهر" يقول : لكل فتاة فراش خبيئ لك فتى زهرة تنتظر نداء حياة لتحقيق ذات تضيئ ملامحها كل دهر فإن تجاوزنا الخلل في الوزن الظاهر في عجز البيت الأخير، نجد أن توظيف النص لخدمة الفكرة قد جاء جلياً في هذا السياق وهو الحفاظ على النوع كسنّة كونية. كما نلمس بعض الإضاءات الفلسفية لتأملات الكابلي والتي تشي بشيء من الصوفية في قصيدة "التفاحة"، وهي من منظوري إلى النظم أقرب (لمقتضيات الموضوع) ربما. فهو يقول : يا كاتمة السر الأخفى يا أم الخلق بلا استثناء ما انفك اللغز يحيرنا قولي وأبيني يا حواء هل كانت فاكهة حقاً أم أن الأمر بتيه خفاء ماذا عن أصل طبائعنا ماذا عن فطرتنا الأهواء تحنانك عقلي أرهقني تجوالك في كل الأرجاء وفيها يتطرق إلى قصة قابيل وهابيل وكيفية تسلسل النشء متسائلاً عن وجود الغيرة زمنئذٍ، ثم يترك حواء وسر التفاحة ليعرج في المقطع الثاني إلى حوار التلميذ وأستاذه حول النفس الأمارة ولم النكران ولم الزهد وماهو مبعثهما في تراوح بين الشك والظن أن اليقين يملكه الأتقياء وبالتالي أستاذه فيبحث عن إجابات تريح حيرته وضياعه، ويخلص في نهاية المقطع إلى أن كل تلك الأضداد (الخير/الشر، الإخلاص/الغدر، المعروف/الجحود.. إلى آخر الصور إنما هي ابتلاءات من الخالق سبحانه وهي عظة لكل صبار شكور. ونلاحظ اتكاء الكابلي في هذه القصيدة على عاملي التضاد والمقابلة (العدل/الظلم، النبل/الغدر، ضياء/ظلام، قفار/غابة، شر/خير، وفاء/غدر.. الخ). وإن كان اللعب على مفردات التضاد من محققات التصوير الجمالي في الشعر، إلا أن الشاعر قد أوغل في استيلاد غير مبرر لذات التساؤلات مع تحوير المستهدف مما أثر في الحضور المكثف للصورة، فانظر إليه وهو يقول : حدثيني عن كل جميل حدثيني عن فضل الإصغاء حدثيني عن كل قبيح ينساق لعتمته التعساء عن قوم دنياهم حسنٌ عن قوم دنياهم بأساء حدثيني عن نبل النفس حدثيني عن غدر ووفاء وبرغم إشكالية التكرار والتي قد يكون مردها رغبة الشاعر في استطالة أمد الحوار بحشد أقصى ما يمكنه من صور المسؤول عنه، إلا أنه نجح في إدخال المتلقي إلى عوالمه ومداراته التي تراود فكره بتوظيف التوازي الدلالي في بعد تأملي لما يثيره من فكرة الصراع الأزلي بين الخير والشر وداعياً كل منا ليرسم حدودها وفق مكنونه الخاص. أما في قصيدة "على عجل" فينحو الكابلي إلى تحريض المتلقي لرصد الألم المستتر خلف النص، فما عاد الكلام جزءا من سلاح المعركة مع عدو لا يفهم سوى لغة الردع، فها هو يقول : لو يسعف القول المصفى حسرة لرضيت منك اليوم بالقول المريح أو كان يجدي القول في ويلاتنا ما كنت قد أبقيت ظهرا للفصيح لكنما لا بالكلام يعاتب الغدر الظلوم المستبيح فدع الكلام.. لطالما تعب الكلام من الكلام ليستريح واقدح زنادك من صواعقك الحرائق يصمت القول الكسيح ودع الكلام ... إن كان يجدي ما أعدنا القول بالآلاف عن قدس ذبيح الكابلي والسودان الأم كمثل أي فنان رقيق الشعور جُبل الكابلي على عشق وطنه الأصغر السودان بكل مساحته الجغرافية غير مفاضل بين مناطقية ولا جهوية ولا قبلية، فهو أشبه بالنيل في مسيره مخترقاً سهوب الوطن، فغنى له وتغنى به في أغاني أساتذته الأُول عليهم الرحمة، وقد انتظمت لديه أنساق ذاك الانتماء منذ أغنية "مروي" وحتى "وطن الجمال" والتي جمع فيها بين التغزل بالحبيبة وحب الوطن في مفاهيمية مشتركة وموصياً أبناء وطنه بالعمل لنهضته، ثم كرر ذات الرسالة في قالب آخر في أنشودة "ليس في الأمر عجب" والتي كان لماحاً فيها عندما أدرك ببصيرة الفنان أن الصراع الإثني والسلطوي في بلده قد وصل إلى حد التأثير على وجود الدولة ذاتها، فانتقد فيها كافة أشكال الصراع وإقصاء الآخر والتصفية الجسدية، طارحاً الخصائص القومية لشعبه ومُطّرحاً معايير التصنيف والتنوع لمكونات السودان الكلي ومنادياً بعقد اجتماعي جديد قابل للاستمرار تشاع فيه الديمقراطية والمساواة والحرية للجميع. إن من ساهم بفنه في التعريف بالدور التنموي للفرد، وإشكاليات النهضة بالوطن، ومحاربة إعادة إنتاج الإثنية، والدفاع عن حقوق المرأة خلال مسيرة امتدت لخمسة عقود لم يكل فيها عن الثبات على ذات المبدأ، فتحقق بعض ما تنبأ وما صبا إليه، وجاءت الأحداث على غير ما يشتهيها في البعض، ألا يستحق مثل هذا الرجل وقفة تكريمية من الدولة؟ سؤال أطرحه على السيد/ وزير الإعلام بصفته، ألا يستحق هذا الرجل على أقل تقدير منحه وساماً، وأشدد على القول.. قبل أن نستبين الحق ضحى الغد... فنحن شعبٌ جُبل على أن يستبين الحق ضحى الغد، وهذا ما أخشاه. فإن كان ذلك بعسير على أصحاب القرار، فأقترح تشكيل لجنة شعبية لتتبنى هذا المشروع يمكنها تكريمه باسم الشعب السوداني، فذلك لعمري رجل وهب عمره للفن ووهب فنه للوطن فكانا أكرم عطاء لغير سائل. لندعو الله جميعاً للأستاذ الكابلي بطول العمر وموفور الصحة.