تشرفت بحضور لقاء صحفي بصالون الشيخ التيجاني سراج الحاج، أحد قيادات الحركة الإسلامية السودانية، أجراه الصحفي النابه بصحيفة الوفاق حينها الأستاذ محمد كامل عبد الرحمن. كان ذلك في العام 2002 للميلاد، فعندما سُئل الشيخ التيجاني عن الأستاذ علي عثمان محمد طه؛ قال في معرض رده إن علياً كان صواماً قواماً لليل ذاكراً لله. حينها تعرفت على الوجه الآخر للأستاذ علي عثمان، لأنني لا أشك البتة في أي حديث يدلي به مربي الأجيال، وحادي سفينة الدعوة، الشيخ التيجاني. وكان إعجابنا بالأستاذ علي عثمان كسياسي شاب وزعيم للمعارضة بالجمعية التأسيسية (البرلمان) في الديمقراطية الثالثة، وخطيب مفوَّهٍ يمتلك ناصية اللغة، وله القدرة على تحريك الشارع، ويجوب بنا المدن في ثورة المساجد المشهورة. ليس هناك ما يجعلنا نشكك في حديث رجل تعلمنا منه مكارم الأخلاق، قضى كل عمره يعلِّم الأجيال، جيلاً بعد جيل، متنقلاً من مدرسة إلى أخرى يمحو عن أهل دارفور ظلام الجهل، ويصعد المنابر يدعو إلى الله على بصيرة، ويزج به في السجون ليكف عن تحريض الشباب على التزام طريق الدعوة والجهاد، وفعل الخيرات، والانخراط في البناء وإعمار الأرض، ونشر الفضيلة، وتنبيه الأمة لتلعب دورها الذي لأجله خُلقت (وما خَلَقْتُ الجِنَّ والأِنْسَ إلَّا ليَعْبُدُونِ). حق لأهل دارفور القابضين على جمر الاستقامة أن يتسربلوا بثياب الحزن، فإنَّ أحدَ أصدق بنيها - وهو الشيخ التيجاني - لزم سرير المرض، وإن لسانه الرطب بذكر الله سكت عن الكلام، وأصبح كسيدنا زكريا، لا يكلم الناس إلا رمزاً. نعم، صمت الشيخ التيجاني سراج الحاج، أحد أبرز قادة الحركة الإسلامية السودانية، عن الكلام إثر علة أصابته، وترجل عن منابر الدعوة، وتوكأ على عصا المرض، وهو يقطن بضاحية «جبرة»جنوبي الخرطوم، في بيت لا يملكه، في ظل دولة التمكين. وقد عرف عنه زهده وورعه وتقواه، ولم يخض يوماً في أعراض الناس، وعندما انشقت الحركة الإسلامية؛ كنا نجلس إليه كقيادة تاريخية، ولأنه يمثل لنا وجه دارفور الأمين، وهو الرائد الذي لا يكذب أهله، ننتظر منه إجابة تشفي ما في صدورنا، وفتوى تجعلنا نلتزم صفاً دون الآخر، لكننا لم نجد منه إلا الصمت المهيب، وعيناه كعيني سيدنا يعقوب، ابيضَّتا من الحزن، لكنه لم ينقطع عن الدعوة إلى الله على بصيرة، وكان يمشي بين الناس بالحسنى، ويغشى أسواقهم، ويأكل طعامهم، ويشهد أفراحهم وأتراحهم، ويعظهم ويصلي بهم الفجر، ويقرأ عليهم القرآن كأنه يقول لنا: اعتزلوا الفتنة. نعم، صمت الشيخ التيجاني سراج عن الكلام، وترجل عن منابر الدعوة، وتوكأ على عصا المرض، تكسوه مهابة العلماء وجلالهم، وسمو الفقهاء وعبيرهم، وتواضع الزهاد وجمالهم، ونعمة الذاكرين وصلاحهم، ولكن تلاميذه من مدرسة الفاشر الثانوية ينتشرون في بقاع الدنيا، ينفعون الناس بما نهلوه من معين علمه، وطلابه من مدارس اليمن السعيد يسعدون الأمة بما تعلموه من الشيخ التيجاني سراج، موجه اللغة الإنجليزية بالمدارس اليمنية، وكل منطقة ب«فاشر أبو زكريا» تذكر مناقب الشيخ، وخطبه القوية التي تهز أركان المدينة، مبشراً بدولة المشروع الإسلامي، وحتى سجن (شالا) المشهور بولاية شمال دارفور، الذي قبع فيه الشيخ ردحاً من الزمان، يذكر جيداً تعليمه للسجناء القرآن ومبادئ التجويد ومحو الأمية، حتى السجن سيشعر بالحزن؛ لأنه كان يستقبل الدعاة وحملة القرآن والعارفين بالله وأصحاب الهمم العالية وسدنة المساجد، والآن يستقبل آكلي الربا. إن الشيخ التيجاني سيظل رمزاً من رموز الدعوة، وعنواناً للاستقامة والزهد والصدق والكبرياء، وإن حواء السودان قلَّ ما تنجب أمثاله، وقد عصمه الله من فتنة المال التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أخشى عليكم الدنيا فتنافسوها، فتهلكوا. أو كما قال. فإن الشيخ لم يهتم يوماً بالمناصب الزائلة، ولم يلتزم منزله لأن التنظيم تجاوزه في مغنم، أو سفر. صمت الشيخ التيجاني سراج عن الحديث، وتوكأ على عصا المرض، ولكن ستظل سيرته محفورة في ذاكرة الأجيال، وبصماته واضحة في سجلات تاريخ الدعوة الإسلامية، وستظل شخصيته محل تقدير واحترام، وشعلة تضيء لنا الدروب المظلمة، ومعالم الطريق القاصد إلى الله.