من حكاياتنا مايو.. ومن شعاراتنا مايو.. ومن حباب الاشتراكية.. إلى القومية ثم النهاية اليمينية.. رغم أنها أطول التجارب عمراً، قبل الإنقاذ، لكنها أيضاً كانت تجربة متعددة في تكويناتها ومتباينة في خطابها السياسي وغير مستقرة في شكلها وإيقاعها طوال الحقبة السياسية لها من العام 1969م وحتى العام 1985م. تتجدد ذكراها كل عام في هذا الشهر باعتبارها فترة من من فترات حكم السودان مليئة بالدم والفرح والدموع وبالإخفاقات والإنجازات، وهناك من يحتفي بها وهناك من يحتفل ضدها بعد نهايتها على يد الانتفاضة الشعبية. ولكن يظل الكتاب مفتوحاً طالما أن التوثيق للتاريخ السياسي موجود وباقٍ. ضيفنا هنا هو أحد رموز تلك الحقبة المميزة في تاريخ السودان السياسي، عُرف بالحنكة والصرامة العسكرية ولم يكن ضعيفاً في أفقه ووعيه السياسي، ولهذا ولذلك كان هو رجل المهام المفصلية في تجربة مايو لكنه لم يسلم من الكيد والدسائس؛ حيث وجد نفسه في مرحلة من المراحل خارج التشكيلة رغم دوره وإسهاماته، ثم كان أحد العناصر التي اعتمدت عليها حكومة الائتلاف في الديمقراطية الثالثة فكان وزيراً للدفاع، وقبل أن يُفصح عن رؤيته إزاء الأوضاع المتردية للقوات المسلحة وسطوة التمرد وانتشاره كان قراره التاريخي بالاستقالة الشهيرة من منصبه وزيراً للدفاع. إنه الفريق أول عبد الماجد حامد خليل النائب الأول لرئيس الجمهورية الأسبق في إحدى فترات مايو الأخيرة. التقينا به في مساحة من الحوار طفنا به على قضايا الأمس واليوم وذلك عبر حلقات حيث بدأنا هذه الحلقة بالسؤال: { ماذا عن الذكرى؟ حقيقةً إذا عاد الناس بالذاكرة إلى الوراء قليلاً فسيتبين لهم ماذا تمّ من إنجازات كبيرة في عهد مايو، وأنا أقول هنا إن من أكثر الأشياء التي سيتذكرها الكل هي الحكم الإقليمي وكيف تمّ ذلك ولمس الناس مزايا إدارة شؤونهم في أقاليمهم المختلفة التي أصبحت بعد ذلك ولايات. والشيء الآخر أيضاً الأساسي والجوهري بالنسبة إلى مايو هو اتفاق أديس أبابا الذي عاشت تحت ظله البلاد في سلام لعقد من الزمان ويزيد، وهي الفترة من العام 1972م وحتى العام 1983م، حيث نعمت البلاد بالأمن والسلام وتحققت التنمية في ذاك الزمان. وهناك عناصر كثيرة جداً ساهمت في نجاح اتفاقية السلام التي حققتها مايو، ومن هذه العناصر المحيطة أنه في ذلك الوقت لم تكن هناك تدخلات كبيرة، كما ساعد على ذلك أيضاً شخصية جوزيف لاقو الذي كان ماسكاً بزمام الحركة وإدارتها ومتحكماً فيها (حركة الأنانيا) مما سهل عملية إبرام اتفاق السلام مع حكومة مايو (جعفر نميري)، مضافاً لهذا أيضاً مساعدة الوضع الإقليمي ووجود الإمبراطور هيلاسلاسي، فكل ذلك جعل الاتفاقية في وقت وجيز تتوصل إلى سلام بدون أي نوع من التبعات اللاحقة، وبالتالي شهد السودان خلال سنوات السلام إنجازات كبيرة في مجال التنمية تمثلت في قيام مشروعات كبيرة جداً في البلاد. أيضاً بفعل الاستقرار واستتباب الأمن والدعم الإقليمي والدولي استطاع السودان أن يمضي بهذه التنمية إلى الأمام، لاسيما وأن الدول العربية جميعها كانت تقف مع السودان، والإنجازات هنا ملموسة. أيضاً هناك شيء مهم تمّ في عهد مايو وكان نميري وقتها يفتخر بذلك هو دستور 1973م، وهو يعتبر من المسائل الأساسية بالنسبة إلى مايو، فأنا أعتقد أن دستور 1973م كان دستوراً معقولاً لأن مواده مقبولة، ولكن الشيء الذي كان مؤسفاً هو حدوث التعديلات التي تمّت بعد ذلك على ذاك الدستور؛ فلقد أُعطيت بعض الصلاحيات الكبيرة التي لم تكن موجودة في الدستور للرئيس الراحل نميري التي كان فيها نوع من التأثير على الدستور، وتسبّب ذلك في عدم قبوله من جهات كثيرة. ولكن أنا أعتقد من ناحية عامة كان دستوراً معقولاً جداً بالنسبة للسودان. أيضاً أعتقد أن الفترة التي أعقبت اتفاقية أديس أبابا جعلت الشعب السوداني يبدأ في استيعاب العملية السياسية الديمقراطية، واستطاعت قطاعات كبيرة من فئات عمرية مختلفة أن تتفهم الحكم وإسلوبه من خلال المجالس الشعبية والمجالس الإقليمية والقومية، وهذه الأوعية أعطت الناس فرصة كبيرة لاستيعاب العملية السياسية ومن ثم يشاركون في الحكم. كذلك أقول إن علاقاتنا مع الدول الغربية كانت متنامية، ومن هنا برزت الدعوة للسودان كسلة غذاء عالمي وكان ذلك من الأشياء الإيجابية التي تُحسب لتاريخ مايو، وبالتالي فأيّة دولة في خلال عقد من الزمان أو يزيد لابد من أن تتقدم وتأخذ بأسباب الدولة الحديثة. وعليه أعتقد أنه لربما الإمكانيات المتوفرة في ذاك الزمان لم تأخذ بيد مايو وتمكنها من تنفيذ كل المشاريع التي كان من المفترض تنفيذها، فبدأت على سبيل المثال عمليات اكتشاف البترول، وبالتالي إذا كان قد اُستخرج منذ ذلك الزمان وكان هنالك مال لكانت مايو قد أنجزت أشياء كثيرة جداً، ولكننسبة لبعض الظروف، ولأن الحرب قد اندلعت في العام 1983م والتي بسببها توقفت المشروعات التي كانت يمكن أن تصبح ضمن مشروعات مايو، فأنا أقول إن أشياء كثيرة جداً حدثت محسوبة لمايو، ولهذا فكلما تأتي الذكرى تستوقف الجميع على الرغم من وجود بعض الإخفاقات التي شهدتها تلك الفترة والمعارضة التي قامت. { ما أن تردد اسم عبد الماجد حامد خليل إلا وتذكّر الناس ذلك اللقاء العسكري الشهير (لقاء القادة)، فيما عُرف بلقاء المواجهة مع نميري، الذي تبعته قرارات خطيرة لاحقاً بحقكم وحق القيادات التي تفاكرت معه، ولم يشهد نميري ولا حكومة مايو بعد هذه الأحداث عافية فسارت الأمور سريعاً إلى أن ذهبت مايو. فمن أجل التاريخ ماذا عن هذا اللقاء الشهير؟ لقد عقدنا لقاءً مع نميري وكان هذا اللقاء مؤسساً على قاعدة إصلاح بعض التشوُّهات في مسيرة مايو، ولكن بكل أسف الرئيس الراحل نميري وقتها، وربما لبعض المؤثرات عليه من شخصيات ذات مصالح معينة، أعتقد آنذاك أن هذا التوجُّه هو انقلاب على شرعية مايو. وأنا أقول إن هذا غير صحيح ولم يحدث، وبالتالي فلو استمر هذا الموضوع قليلاً في ذاك الزمان ولم تحدث الانتفاضة كان من الطبيعي أن تنتقل البلاد إلى الوضع الديمقراطي؛ لأن أي وضع عسكري شمولي في الآخر لابد من أن يصل إلى الوضع الديمقراطي الذي يكون مقبولاً لكل الناس. { إذا قاربنا الأزمان والأحداث مع بعضها البعض، هل لقاؤكم بنميري، كلقاء تصحيحي لمسار مايو، يشبه مذكرة القوات المسلحة الشهيرة في العام 1989م التي تُعتبر حالة تصحيحية أيضاً للديمقراطية الثالثة؟ حقيقةً لقاؤنا سبقه اجتماع دعا له الرئيس نميري وقتذاك لقيادات العمل الوطني بالنسبة للاتحاد الاشتراكي في كل السودان. ولكن الذي لم يعجبنا هو أن ذاك الاجتماع لم تكن فيه المصداقية الكاملة لتمليك جعفر نميري ماهو مفترض أن يُصحح، ولذلك جاء لقاؤنا لهدف التصحيح المطلوب، أي ما كان يجعل مايو تسير في الطريق المطلوب الذي يتقبّله كل الشعب السوداني. أما مذكرة القوات المسلحة في العام 1989م إبان فترة الديمقراطية الثالثة، فهي جاءت لتصحيح أوضاع القوات المسلحة في ذلك الوقت وكان هذا في تصوري هو الهدف الرئيسي لتقديم المذكرة. فالقوات المسلحة كانت تعاني من بعض النقص في المعينات ومن عدم اكتمال مطلوبات القوات المسلحة، وهنا يكمن وجه الفرق بين لقائنا التصحيحي لمايو مع جعفر نميري وبين مذكرة القوات المسلحة في العام 1989م؛ فذاك كان لقاءً تصحيحاً لمسار مايو السياسي وتلك كانت لإصلاح حال القوات المسلحة. فنحن كنا نريد تصحيح الأشياء التي عجز عن طرحها المؤتمر الذي دعا له نميري لقيادات العمل الوطني. { هل يمكننا القول إذن إن لقاءكم كان ثورةً تصحيحيةً لمايو ولكن نميري لم يلتقط القفاز؟ بالضبط كذلك. { ولو فعل لما قامت الانتفاضة؟ بالتأكيد هذا هو الصحيح. ولكن بكل أسف هو اعتبر ذلك الموقف مؤامرة وتعامل معه بهذا المنطق. وللحقيقة والتاريخ أقول إن توجهنا هنا كان بعيداً جداً من التآمر، ولكن هناك من ضلله ووشى له فمضى في طريق الهواجس. فهناك من قال لنميري لو لم تتصدَّ لهؤلاء سينقلبون عليك. وبالفعل لقد وصلتني في ذاك الزمان معلومات من أناس كانوا قريبين جداً من نميري مفادها أن نميري قد صدّق رواية أن هناك حالة انقلابية وأخذ الأمر حينها مأخذ الجد على اعتبار أنه يريد أن يؤمِّن مايو، ولكن تكشّف له بعد ذلك أن الانقلاب لم يكن وارداً. وجاءتني بعض الشخصيات التي قالت لي إن نميري وعدهم بتصحيح القرارات والمواقف التي اتخذها تجاهنا، وكانت النتيجة أنه لم يصحح ذلك الموقف. وهناك من المسؤولين في مايو من جاءني أيضاً وقال لي إن نميري سيبعث بمندوب لك للاعتذار عن الفهم الخطأ. ولكن المندوب الذي ذكر لم يأتِ. { إذن، هل كان نميري في نيَّته الاعتذار؟ نعم، حسب الإفادات الواردة لي وقرائن الأحوال أن نميري كان في نيته الاعتذار. وحقيقةً عندما التقيت به وأعفاني قال لي حديثاً كان لابد أن يقوله على هذه الشاكلة ذلك في أنه لا يقصد شيئاً ولكنه فقط ابتعد عن القوات المسلحة مدة طويلة ولذلك يريد العودة إليها. ولكن ليس ما قاله لي من تبريرات هو السبب، بل كان القصد من عودته للجيش هو اعتقاده بأن هناك خطأً قد حدث أو أن هناك نوايا قد لا تكون متماشية مع مايو فأعفاني كقائد عام وتولى القيادة هو وقال لي حينها إن الإعفاء تلقائياً يشمل منصب وزير الدفاع والأمين العام للاتحاد الاشتراكي والنائب الأول. وذكر لي بأنه لا يحمل شيئاً تجاهي ووعد بكتابة رسالة بهذا المعنى لي، فكتبها أيضاً وكان جوهرها الثناء عليّ والشكر، وقال بالحرف الواحد: «أنت لازلت من دعامات مايو» وتمنّى لي بعد ذلك كل التوفيق. { بعودة لإنجاز مايو في السلام، هل يمكننا القول إنه لولا وجود الإمبراطور هيلاسلاسي لما أُوتى أُكُل اتفاقية أديس أبابا للسلام مع متمردي حركة الأنانيا التي وُقِّعت في العام 1972م؟ حقيقةً الإمبراطور هيلاسلاسي كان له ضلع كبير جداً للوصول وفي زمن وجيز إلى تحقيق هذه الاتفاقية، وكذلك لابد أن نذكر مولانا أبيل ألير واللواء (م) الباقر وإخواننا من القوات المسلحة من الذين ساعدوا على إبرام هذه الاتفاقية وكذلك د. منصور خالد. { مايو كحقبة حاكمة اَّتجهت من حمراء اللون إلى الأمريكان. والآن أمريكا أيَّدت الانتخابات ودفعت بنيفاشا في سبيل الإسراع بالاستفتاء. فلمّا كانت مايو جميعها صديقةً للأمريكان لماذا لم يشجِّع الأمريكان تقرير المصير للجنوب منذ ذلك الوقت وانتظروا طوال هذه المدة لتأتي نيفاشا؟ في الحديث عن نيفاشا أقول إن طلب تقرير المصير لم يأتِ من الخارج ولكن التأثيرات التي حدثت وجعلت المجتمع الدولي والإقليمي يتدخل في شؤون السودان، وخصوصاً في شؤون الجنوب، هي التي جعلت إخواننا الجنوبيين يصرون على الاستفتاء بِنِيَّة أن الجنوب يمكن أن يحكم نفسه. ومن التجربة فأنا أقول إن الأمريكان منذ زمن طويل يرغبون في أن يظل السودان كتلةً واحدةً في المنطقة.