مستوى الصراحة التى حفل بها هذا الحوار ربما أوقعته في شبه الحوارات (المرعبة). ولعل القيادي بالمؤتمر الشعبي المهندس الحاج آدم يوسف، أستاذ الهندسة الزراعية بجامعة الخرطوم والمرشح لمنصب والي جنوب دارفور، لم يتردد في فتح النار في وجه المؤتمر الوطني دون وجل، وكان أكثر حرصاً على نقل ما في الصدور للسطور.. قلت له وأنا أتجاذب معه أطراف الحديث في مكتبه الأنيق بجامعة الخرطوم: أتذكر أن اسمك كان يملأ الصحف بمساحة متهم (هارب)، كان ذلك قبل سنوات، واليوم تحاضر في أم الجامعات، تناصح الطلاب كأنك لم تعد مشغولاً بالنضال! الحاج آدم يوسف هو رجل على مستوى عالٍ من الوعي والبساطة والصراحة في نفس الوقت.. كان مقرباً من الدكتور الترابي وما يزال.. ولعل الانطباع الذي ترسّخ لنا ونحن نتحدث معه أنه قريب من أهله في جنوب دارفور.. جلسنا معه لهذا الحوار المكتنز بكل ما هو متعلّق بمشكلة دارفور، وجدل الإسلاميين بعد المفاصلة، وحدود العلاقات بين الوطني والشعبي.. قلّبنا معه الكثير من المحاور والقضايا، المسكوت عنها والمنطوق بها في واقع الأزمة.. كانت بعض الإجابات مفاجئة وعلى درجة عالية من الوضوح.. والبعض الآخر جعلنا نتحسّس جهاز التسجيل لأكثر من مرة.. ونعيد قراءة وكتابة الإفادات. إلى مضابط الحوار: { التنمية تحتاج لاستقرار ومن الصعوبة بمكان أن تتوفر فرص للتنمية أثناء الحرب؟ - يا سلام.. طيب طريق الإنقاذ الغربي لماذا توقف؟ كان الحديث عنه يدور منذ بداية الإنقاذ، الناس في نيالا يبحثون عن المياه والكهرباء ونيالا ليس فيها حروب... و... { ............................؟ - أنا لست ضد منافع تتحقق في الشمال ولست ضد أهلي في الشمال ولكنني أطالب بالتنمية المتوازنة. { طيب إذا كان الحال بذلك السوء لماذا صوَّت المواطنون في دارفور لمرشحي المؤتمر الوطني؟ - هم لم يصوِّتوا وإنما زُوِّرت إرادة الشعب حتى يقولوا صوِّتوا للمؤتمر الوطني. وبالنسبة لي فأنا موقن بأن هذا لم يحدث، صحيح في دارفور وجدت قطاعات واسعة قالت بأنها ستصوِّت للبشير، أقر وأعترف بذلك، ولذلك أنا لا استغرب لفوز الرئيس عمر البشير، على الأقل في الولاية التى كنت مرشحا فيها، ولكن فوز الولاة والمجلس الوطني كله فهذا أمر غير ممكن، وهم فازوا بنسبة أكثر من رئيس الجمهورية، ولذلك المواطن لم يصوِّت للمؤتمر الوطني حتى يحقق له خدمة وإنما قد يكون له مرشح في دائرة أو ولاية. { هل قُدمت لك الدعوة للمشاركة في الحكومة الجديدة؟ - لا.. هذا لم يحدث. { لو قُدمت لك الدعوة للمشاركة على المستوى الشخصي هل ستوافق؟ - طبعاً سنناقشها في إطار الحزب، ولن أنسلخ من المؤتمر الشعبي كما فعل الآخرون، أنا قُدمت لي دعوات سابقة بأن أنسلخ من المؤتمر الشعبي وأنضم للمؤتمر الوطني، ولكنني لم أقبل بذلك ولن أقبل إلا بشرط واحد؛ أن يُغيِّر المؤتمر الوطني منهجه وفق الرؤية التي نراها، وهى أن يُحكم السودان بمعادلة وهيكل جديد في الحكم يشترك فيه جميع أبناء السودان على قدم المساواة بنسبة كثافتهم السكانية في إدارة شأن البلد القومي كله. فإذا تبنى المؤتمر الوطني هذا المنهج فأنا ليس عندي تقديس لحزب، عندي تقديس للمبادئ التى أدعو لها، ومتى ما وجدت المعادلة التى تحقق وحدة السودان فهذا هو طريقي. { هنالك من يقرأ صلاتك القوية بقادة المؤتمر الوطني وتبادل الزيارات بينك ووالي جنوب دارفور (كاشا) في سياق الاقتراب من صفوف الحكومة؟ - والله يا أخي أنا شخصياً لا أكره إنساناً لأنه مؤتمر وطني، ولا أحب إنساناً لأنه مؤتمر شعبي.. أنا أحترم الإنسان الصادق الذي يعبِّر عن صدقه، وعلاقتي بكاشا علاقة شخصية كانت أثناء الانتخابات وستظل، لأن (كاشا) نفسه ليس جزءاً من آلية التزوير التى حدثت، وأنا أعلم من الذي كان يجلس خلف (ماكينة) التزوير في كل أنحاء السودان وليس جنوب دارفور فقط، وكاشا ليس جزءاً من الآلية التى أدارت الانتخابات والتزوير الذي حدث، ولذلك فإن علاقتي بكاشا جيدة، بل أتمنى له أن ينجح وهو له حق أن يأتي والياً للولاية بغض النظر عن الآلية التى أتت به، وما دام هو الآن والياً لجنوب دارفور فأنا أتمنى له أن ينجح في عمله باعتباره ابناً من ابناء دارفور لأن اي فشل له في هذه العملية يتناقض والنظرية التى أؤمن بها وهى أن أبناء الولايات هم الأنسب لإدارة شؤون ولاياتهم. { ذكرت أنك تعرف الشخص الذي أدار عملية التزوير في كل أنحاء السودان، فمن هو؟ - ياخي أذهب وأسأل عنه بالمؤتمر الوطني. { للمؤتمر الشعبي نواب في البرلمان، ولهم صوت عالٍ ومزعج لدرجة أن نواب الوطني طالبوا رئيس المجلس الوطني بإسكاتهم، فمن أين جاء هؤلاء؟ - أنت تعلم أن هؤلاء النواب جميعهم جاءوا من جنوب دارفور، ولك أن تتصور انعطاف أهل الولاية نحو المؤتمر الشعبي بالرغم من آلية التزوير والمضايقات، وبالرغم من ذلك استطعنا أن نأتي بنواب أكفاء يصدعون بصوت الحق في أيّة مسألة، وكان المرتجى أن يكون هنالك وجود لكل للقوى السياسية في هذا المجلس لكي يعكس أهل السودان جميعهم، وحتى بخصوص التمثيل النسبي للأحزاب، المفوضية القومية للانتخابات حسبت النتائج بطرق تساعد على إبعاد الأحزاب الصغيرة مع أن الحكمة من التمثيل النسبي أن تمثل جميع الأحزاب ما أمكن ذلك في البرلمان حتى تعكس قومية أهل السودان، لكن بالرغم من ذلك نحن استطعنا أن ندخل أعضاء في البرلمان القومي وبرلمان الولاية وهذا يدل على التفاعل الشديد من أبناء جنوب دارفور مع المؤتمر الشعبي. { هل لهؤلاء النواب قدرة على التغيير وخطة للعمل من الداخل أم هدفهم (الإزعاج) فقط كما يظن البعض؟ - هم لم يأتوا للبرلمان بهدف التخريب أو ليشكلوا (صداعا) وإنما جاءوا ليصدعوا بكلمة الحق، ونحن بكل ذلك نبتغي الإصلاح ما استطعنا لذلك سبيلاً، ولا نبتغي الإزعاج، ومن يطالب بإسكات صوتنا نحن نقول له هذا صوت الشعب ولا يمكن أن يسكت إلا بالبندقية كما أسكتوه هنالك.. من يرفض الحق هو الأولى بمعالجة نفسه وليس نحن. { الأستاذ علي عثمان وجّه اتِّهاماً مباشراً للمؤتمر الشعبي وقال إنه هو المسؤول الأول عن الدماء التى سُفكت في دارفور، إلى أي مدى هذا الاتِّهام صحيح؟ - كما قلت يظل المتهم بريئاً حتى تثبت إدانته، ونحن نقول إن المؤتمر الوطني مسؤول عن كل ما حدث في دارفور بتبعاته والاتِّهام مردود عليهم هم، وإذا كان المؤتمر الشعبي هو المسؤول عن ذلك فعلى الحكومة أن تعالج المشكلة وإذا عجزت هى عن حل هذه القضية وهى تتَّهم المؤتمر الشعبي بأنه وراء ذلك فهذا يعني أن للمؤتمر الشعبي وزناً لا يمكن أن يُتجاوز، ولماذا لا يُدار حوار مع المؤتمر الشعبي إذا كانوا هم صادقين فيما يقولون؟ نحن نبرأ بأنفسنا عن أي اتِّهام. { ولكن هناك من يقول إن الترابي بينه وهؤلاء قطيعة نفسية تحول بينكم والحوار؟ - هم الذين قطعوا الطريق أمام المبادرات وليس نحن، نحن فقط وضعنا شرطاً واحداً أنه لا يمكن أن نتفاوض وجزء منا في السجون، يُطلق من هم في السجون وندخل مباشرة في التفاوض، مثلاً أنا اتُهمت في يوم من الأيام زوراً وبهتاناً بأنني قائد لحركة تخريبية، فكيف أخوض في التفاوض وإخواني في السجون؟ { في نفس الاتجاه هنالك من يقول إن أزمة دارفور هى نتاج لإفرازات صراع الإسلاميين على السُلطة؟ - والله نحن لم نعد طرفاً في السلطة وخرجنا بإرادتنا بالرغم من مطالبة الأخ نائب الرئيس أن نبقى في السلطة وتعالج هذه القضايا ولكننا تنازلنا طواعية، وبالتالي لا يمكن أن نأتي مرة أخرى لكي نتصارع حول السلطة ونحن خرجنا منها بإرادتنا ولم نُطرد ولم نُذل، وكنا نرى أن هذه السلطة لا تسير في الاتجاه الصحيح وهذا ما يحدث من واقع الحال. { خلاصة القول: ما هو مستقبل العلاقة بين المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي، وهل كان ذلك فراقٌ أبديٌ بينكم؟ - بالنسبة لي أنا شخصياً أعتقد أنه لو اتفقوا اليوم أفضل من الغد، وباتفاقهم يمكن أن يُخرجوا البلد من أزماتها، وبالتالي المرارات الشخصية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون حجر عثرة وعقبة في طريق تحقيق مصالح الأمة، ولذلك أنا أرى ضرورة انتقاء الصادقين من الطرفين في صف واحد من أجل هذا البلد وهذا هو الأفضل ونحن مطالبون بهذا اليوم قبل الغد، لكن هذا يحتاج إلى جُرأة، ولا يمكن أن يتم ذلك ما لم نقم بعملية نقد لمناهجنا، فعلى المؤتمر الوطني أن يجرد حسابه بشفافية منذ أن تفاصلنا وينظر للمحصلة النهائية التى وصلنا اليها، وكذلك يفعل المؤتمر الشعبي بصدق شديد، وعندما ننظر إلى المآلات يمكن أن نتوحّد طواعية. { الحاج آدم يوسف هو الآن موظف في مؤسسة حكومية وقد ظل صوته (ناقداً) فهل حدث أن تعرضت لأيّة مضايقة داخل الجامعة؟ - هذا من حقي وليست هنالك أيّة مشكلة في أن أتحدث عن أيّة سياسة خاطئة، وإن لم يعجب ذلك الحكومة يمكنها أن تعتقلني، وهذه جامعة تدعو للحريات والديمقراطية. { ملاحظتي نبعت من أن معظم قادة المؤتمر الشعبي لا يعملون في مؤسسات قريبة من الحكومة؟ - من قال ذلك، نائب الأمين العام عبد الله دينق نيال هو أستاذ في جامعة جوبا ولدينا أساتذة وموظفون في الدولة، صحيح هنالك استهداف خاصة في الوظائف العليا، ولكن بالنسبة لي فأنا أستاذ عادي ولست مديراً للجامعة أو عميد كلية، وحتى رئيس الكتلة البرلمانية بالنسبة للمؤتمر الشعبي دكتور إسماعيل حسين هو أستاذ في هذه الجامعة. { كلمة أخيرة تريد أن تصوِّبها من خلال هذا الحوار؟ - الآن وقد ودعنا الانتخابات لم نشعر بأن هنالك تغييراً حدث في الخارطة السياسية، بل تأزمت الأوضاع أكثر ولم تؤتي الانتخابات ثمارها أو تسهم في تخفيف الواقع وتقليل الاحتقان السياسي الذي صاحب العملية، والآن هم يتحدثون عن إشراك القوى السياسية، فلا يمكن للمؤتمر الوطني أن يعمل متعمِّداً لإبعاد القوى السياسية باستخدام الأساليب الفاسدة ويفرض على الناس جميعاً أنه هو الذي فاز ثم يغازل القوى السياسية ويدعوها للمشاركة ويمتنَّ عليها بذلك، وهو يريد إن يقول كلكم صفر على الشمال ويمكن أن آتي بكم (ديكورات) وبالتالي لا يمكن للمؤتمر الوطني أن يجمِّل هذه الحكومة. وما دام الأمر كذلك والمؤتمر الوطني قد نال أكثر من «90%» في الانتخابات فعليه أن يقدم على نقل الواقع السياسي السوداني إلى واقع جديد وهو مفوَّض من الشعب السوداني ليس ليشكل حكومة من الحزب نفسه وإنما الشعب فوَّضه ليدير هذا البلد سياسياً. وعلى المؤتمر الوطني أن يقدم على تغييرات هيكلية رئيسية ويقدم على إجراءات حازمة في تنفيذ اتفاقية السلام بكل بنودها العالقة، ثم يقدم على حل قضية دارفور بجرأة عبر الحكومة القومية التى تتلاقح فيها أفكار القوى السياسية كافة، وعلى القوى السياسية أن تبتعد عن المناكفة حتى تبنى الثقة بين الجميع ونتعاون جميعاً على انتشال هذا البلد الذي يجمعنا، وعلى المؤتمر الوطني أن يدفع ثمن النقلة الكبيرة التى يجب أن تحدث والرئيس الذي فاز بثقة الشعب يمكن أن يتخذ المزيد من القرارات ويفرج عن المعتقلين السياسيين ويشرك الجميع في تحمُّل المسؤولية.