مع خواتيم سنوات الثمانينات من القرن الماضي، كان السطوع اللافت لثورة الاتصالات التي شغلت الفضاء الفسيح، في تزامن مع انطلاق عناصر ومفردات لغة العولمة التي غيّرت العالم كثيراً وإلى الأبد، ازدحم الفضاء بالقنوات التلفزيونية التي عززت عصر الاتصالات، وكان حضور العالم الثالث في البدء، كما هي العادة، خجولاً ينزع إلى التقليد والمحاكاة، إلي أن برزت فضائية (الجزيرة) القطرية التي كانت، منذ الوهلة الأولى، علامة فارقة في مسيرة الإعلام الفضائي في العالم العربي والشرق الأوسط، كواحدة من القنوات الأكثر تميزاً ومهنية من خلال هويتها الفريدة وخطابها الجريء، ومغامراتها المغايرة، وكسرها لسائر الحواجز و(التابوهات) في مجال الإعلام العربي المحافظ، وتوالت التجارب التي وضعت ميديا الفضائيات العربية في الموقع الذي تستحق في الخارطة. ونحن، هنا، في السودان، ومع بداياتنا الباكرة، في هذا الحقل، إلا أننا لم نرتقِ بعد إلى المستوى الذي يعكس ثراء شعبنا وتنوع بلادنا، وغنى ثقافاتنا، في مختلف مجالات الصورة وقدراتها التعبيرية. غير أن الوضع تغير رويداً رويدا مع بروز فضائية (النيل الأزرق) التي جاءت مترعة بالجمال والإضافة، وأخيراً برزت فضائية (قوون) الرياضية التي تشكل نقلة نوعية فارقة؛ إذ أن بمقدورها تحقيق اختراق كبير على جبهة المشاهدة الفضائية ليس في السودان وحسب، بل قد يتعداه إلى مختلف أرجاء العالم، بسبب الوجود الكبير للسودانيين في سائر قارات الدنيا وشغف السودانيين المعهود بالرياضة على وجه العموم، وكرة القدم على وجه خاص. ومن البداهات الإشارة هنا إلى أن عصر الصورة هو الذي سيسود خلال العقود المقبلة، الصورة العابرة للفضاء التي تخترق كل الحواجز والجدر، وتدخل كل بيت ومكتب وميدان، الأمر الذي يجعل من القنوات الفضائية قبلة لكل المشتغلين بالأخبار والمتابعة اليومية والتوثيق والغناء والموسيقي والفلكلور، مما يضع على عاتق القائمين على أمر تلك الفضائيات أعباء ثقيلة من أجل تجويد الأداء وتحسين المنتج وتطوير البرامج والخدمات لجذب أكبر قدر من المشاهدين لاعتلاء القمة. ويبقى رضاء شغف المشاهد السوداني الحصيف والمتطلب مهمة عسيرة على المسؤولين عن تلك القنوات، لاسيما وأن المشاهد يتجول في فضاء مترع بالثراء تقدم فيه أعمال تلفزيونية مخدومة باحترافية وجاذبة وغنية بعناصرها، وليس ثمة ما يدفعه للعودة إلى مشاهدة قنواتنا إن لم تقدم له ما يشبع شغفه. وبمقدور قنواتنا أن تقدم المدهش والجاذب إن تُرك (الخبز لخبازه) لأن بلادنا غنية بتنوعها الذي يعطي صورة متعددة وثرية وجاذبة، فقط تنقصنا المعيارية وإعطاء الفرص للمبدعين والموهوبين، والخروج من دائرة النمطية و(الديناصورية) التي قتلت الإبداع في بلادنا في مختلف ضروبه، وإن أُعطيت الفرصة لأصحاب المواهب والمقدرات ومُنحوا الفرص اللازمة للتدريب لرفع قدراتهم وصقل مواهبهم فستكون لدينا زخيرة وافرة من الكوادر القادرة على تحقيق الاختراق في مختلف المجالات. وعلى كثرة القنوات الفضائية السودانية إلا أننا مازلنا في وضع أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه وضع (إبتدائي) ويلزمنا الكثير من الزمن والإنفاق المالي والصبر وتكثيف التدريب وإتاحة الفرص والتجريب لنبلغ الشأو الذي يعكس غنى بلادنا وشعبها وثقافته.