٭ لا أتصوّر أن دولة السودان منذ تشكيلها قد واجهت، أو أنها ستواجه في مستقبلها، حدثاً أكثر خطورة من حدث «ممارسة تقرير المصير»، هذا الحق الذي سيمارسه شعب جنوب السودان في مطلع العام القادم، وذلك وفق استحقاقات اتفاقية «مستنقعات نيفاشا»، وهنالك مجموعة سيناريوهات سيواجهها الشعب السوداني على إثر هذه الممارسة، من هذه السيناريوهات أن تُفضي هذه الممارسة إلى صناعة دولتين، وذلك إذا قرر الجنوبيون الانفصال عن الشمال، وهذا الخيار في حد ذاته يُفضي إلى أحد سيناريوهين، أن تنشأ علاقة صداقة ومصالح مشتركة بين الدولتين الجديدتين، على أن يظل نفط الجنوب يكرر في الشمال ويُصدّر عبر منفذ البحر الأحمر، على أن تنجو الدولتان من «لعنة النفط»، والاحتمال الآخر أن تذهب الدولتان مباشرة بعد إقرار الانفصال في حالة حرب، وما أكثر المسوِّغات والقضايا المختلف حولها يومئذ إن لم يحتكم القوم إلى منطق العقل، أو أن يزوِّر الجيش الشعبي نتائج هذا الاستفتاء ويتلاعب بها، ومن ثمّ يرفض الشمال هذه النتائج، وهذا سبب آخر لافتعال الحرب، أو أن يُدخل الجنوب نفسه في حالة حرب مع الجنوب، أن ينتقل الصراع حول السلطة والثروة من مربع الشمال والجنوب إلى مربع الجنوب والجنوب، على أن تختلف قبائل ومكونات الجنوب حول هذه المكتسبات، خاصة إذا استمرأت قبيلة الدينكا عمليات الاستئثار والاستفراد بالسلطة. بالمناسبة الجنوب ليس شيئاً واحداً، ولقد قالها أحد الإخوة الجنوبيين يوماً، قال «إن الشمال بالنسبة لنا بمثابة ورق الفلين الذي يوضع بين ألواح الزجاج حتى لا يتكسّر»، ولكن إذا «تطاقش» هذا الزجاج يوماً فالخاسر الأكبر سيكون هو الشمال، لأن أرتال النازحين والفارين من أتون الحرب لن تذهب إلى كينيا أو يوغندا ولا زائير، ولكنهم سيأتون إلى الشمال، فالتجارب التراكمية ومسيرة الأحداث قد أثبتت أن الشمال أقرب وأرحم للجنوب من أي دولة أخرى، لهذا وذاك فإننا نزعم «لو أن انفصالاً قد وقع فذلك بقوة الجيش الشعبي وليس بإرادة شعب الجنوب»، فطواحين الجيش الشعبي إن لم تجد ما تطحنه مع الشمال ربما تطحن نفسها!. والسيناريو الأخير هو سيناريو الوحدة، وهو الأقل حظاً وفق الدراما التي تُعرض الآن على خشبة الأحداث، وسيناريو الوحدة نفسه يحتمل عدة وجهات، فأحد وجهاته وتوجهاته ضعيفة الإحتمال أن تنشأ وحدة متناغمة، تراعى فيها المصالح والمصائر المشتركة. والاحتمال الآخر أن نذهب من جديد إلى «نسخة مشوهة» من الوحدة كالتي نكابدها الآن، وهو خيار الدولة الواحدة المتحاربة والمرتبكة داخلياً، على أن يستمر دور السيد باقان أموم كأحد أركانها، فيواصل استفزازاته، كأن يستغل منصبه الوزاري ليُعلن دولته في اليوم والليلة خمس مرات، وأن يقول فيها ما لم يقله مالك في الخمر، أن يقول أنها «فاسدة وفاشلة» و.. و.. ٭ ولو استقبلت من أمري ما استدبرت، لقلت يفترض أن السلام هو الهدف الأسمى، ثم لنبحث أين يكون السلام، هل يكون في «دولة واحدة متحاربة» أبطالها عرمان وفاقان، أم يكون في دولتين جارتين متعاونتين؟، وإن كان لا بد من التعارك والشقاق والتصادم، هل أفضل أن يحدث ذلك في مقرن النيلين بالخرطوم، أم بعيداً هنالك في الأدغال؟ و.. و.... ٭ لكن المدهش في هذه السيناريوهات أنها كلها بيد «الحركة الشعبية لتحرير السودان» هي التي ستفرض خياراتها، سلماً أو حرباً، وحدة أو انفصالاً، ونحن الملايين في الشمال والجنوب كشعوب لا نملك إلا الأماني والدعاء والأشواق. إذن.. على الحكومة في هذه الحالة أن توفِّر لنا أموالنا وجهدنا، وأن تذهب مباشرة لإقناع حكومة الجيش الشعبي بخياراتها.. والله أعلم..