وقف أحد الصحفيين الأمريكيين يوماً على غابات الجنوب الغنية، ثم جاء إلى الشمال فوقف على الصحارى والضهاري واحتدام مشروع الإسلاميين، كان ذلك في منتصف التسعينيات على أيام صيف العبور ومشروع الإسلاميين على أشده، فاختزل ذلك الصحفي مشاهداته واختتم انطباعاته في جملة واحدة تقول «لماذا لا يذهب الجنوب بتلك الثروات الغنية والموارد البكر ويترك الشمال لله والصحراء؟»، ولا يدري هذا المسكين أن أعظم حضارة إنسانية في التاريخ قد نهضت على هذين المحورين، الله والصحراء، «رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ»، الآية الكريمة، لذلك فقد ذهب الشمال بعيداً في ثقافة «تسليع الوحدة»، أن يدفع كل ما يملك من سلع لأجل الوحدة، لكنه في المقابل كان يرفض مبدأ «الوحدة على أسس جديدة»، الطرح الذي يفقد الشمال مشروعه ومشروعيته، الذي أطلقه يساريو الحركة في الوقت بدل الضائع، ولكن في نهاية المطاف بدا كما لو أن واشنطن تأخذ برؤية صحفييها على أن يذهب الجنوب بموارده ويترك للشمال الله والصحراء! أحد الإخوة الجنوبيين في لحظة صفاء واعتراف باهظ قال بتلك الجملة الحتمية، قال «إن الشمال بالنسبة لنا بمثابة ورق الفلين الذي يوضع بين ألواح الزجاج حتى لا تتكسر»، لكن في المقابل إخوة له من غير الراشدين، يذهبون الآن بقوة إلى نزع ورق الفلين من بين ألواح الزجاج، وهم يعلمون ألا محالة من «تطاقش» الزجاج، ولكنهم يفعلون ذلك استجابة «لإغراءات» من وراء البحار، ولا يهمهم أن يتحطم كل الزجاج طالما أن أرصدتهم وإقامتهم وأولادهم ومساكنهم جاهزة في تلك المهاجر التي تمنيهم وتعدهم! وإنهم عبثاً يحاولون إقناعنا بأنهم يعملون من أجل شعوبهم وأوطانهم، هذا ادعاء أجهضته الممارسة، فبعد خمسة أعوام من السلام ازداد الفقراء فقراً والأغنياء والأدعياء غنى! جنوبي ثان يرتكز على قدر من العقلانية قد أطلق يوماً معادلة «الوحدة السيئة خير من الانفصال الجيد»، وهي العبارة التي تقابل معادلة «السلام السيئ خير من الحرب الجيدة»، وهو يدرك تماماً أن طبيعة السودان تبدو كالجسد الواحد، فالأنهار كما لو أنها شرايين تتوزع في جميع أنحاء هذا الجسد، والنفط الذي يتدفق كما لو أنه وريد يغذي القلب والأطراف، لهذا تبدو عملية الانفصال كعملية تقطيع لهذه الأوردة والشرايين لصناعة شخصين، وهذه عملية جراحية معقدة ربما تودي بحياة الدولتين المحتملتين. عبارة ثالثة تنسب لأحد الفلاسفة الجنوبيين تقول «لقد تمنينا دائماً للسودان مقعد أفضل الأفارقة، لكن السودان دائماً اختار أن يجلس على مقعد أسوأ العرب»، غير أن عملية الانفصال الوشيكة، والحديث لمؤسسة الملاذات الجناح الفكري، سوف تؤهل «النسخة السودانية الجنوبية» لانتزاع لقب أسوأ الدول الأفريقية بجدارة، ولئن كانت الصومال الآن تتميز بلقب «الدولة الفاشلة»، فإن هذه الدولة المحتملة ستكون أكثر فشلاً، فالجنوب بوضعه الحالي يمتلك مقومات هائلة وبنيات شاهقة لصناعة «دولة فاشلة»، ومن أعظم هذه البنيات «التركيبة القبلية الهشة» والغابة وكثافة الأسلحة، وربما تحتاج قبيلة الدينكا إلى نصف قرن من الاحتراب لتنهك بقية القبائل والحركات المنشقة، لتقيم بعد ذلك دولة مهترئة على ركام وأنقاض بعض الغابات المحترقة وبعض الأشلاء. وسيكتب التاريخ للشمال بكل مكوناته ومعظم تياراته بأنه قد سعى بما يملك من أوراق «لصناعة الوحدة»، الوحدة التي أوراقها بيد الإخوة الجنوبيين، بحيث أنهم هم الذين سيذهبون للصناديق ليقرروها، فإذا ما قرروها تبقى أمامنا عبارة ذهبية أطلقها منذ يومين السيد عبد الله مسار على صدر الانتباهة العائدة، قال رجل الرزيقات القوي «يجب صناعة دولة شمالية قوية حال اختيار الجنوبيين الانفصال».