الشاعر العربي الأسطوري، أبو الطيب المتنبي، وقف كسير الخاطر أمام حاكم مصر يومذاك، كافور الإخشيدي، وهو يطلب العطايا قائلاً: أبا المسك هل في الكأس فضل أناله فإني أغني منذ حين وتشرب لم يكن المتنبي شخصاً دنيئاً وضيعاً، لكنه كان ثعلباً ماكراً يدرك قدر نفسه، لذلك كان يتقمص النفاق والمداهنة حتى يصل إلى أهدافه من براثن الحكام!! مشهد المتنبي عندما يطلب العطايا من السلطان، ربما يكون على شاكلة تفاهمات الذئب والحمل التي جرت بين المؤتمر الوطني وجماعة المشاركة في الاتحادي «الأصل» خلال الأيام الفائتة، وهي ضعيفة لا ترقى إلى مستوى الحوار السياسي المتعارف عليه!! كانت الصورة طبق الأصل بين مطلوبات المتنبي ونوايا المتعطشين للمشاركة في «الأصل» مع وجود الفارق في المآلات والوسائل والأبعاد. شكل اللقاءات الخاطفة بين المؤتمر الوطني والاتحادي «الأصل» كان يمثل لوحة متشابكة من الكوميديا والتناقضات والعجائب والأشياء المأساوية، فالشاهد أنه لم تكن هنالك أصلاً مفاوضات بين الطرفين وفقاً لتقاليد ميكانيكا الطاولة والعرف السياسي، بل كانت توجد عملية ترقيعية ترتكز على إلحاق بعض منسوبي الاتحادي «الأصل» بقطار السلطة بعد أن يتم اختيارهم بعناية فائقة من المؤتمر الوطني لتولي وزارتين مركزيتين وحقيبة دولة!! بل الأدهى من ذلك أن حزب الأغلبية الحاكم لم يجلس، حتى إعلان التشكيل الوزاري الأخير، مع المجموعة التفاوضية التي جاءت بقرار من مولانا، واكتفى بتنظيم الاجتماعات السريعة مع العناصر المقربة، والتفاوض معهم في إطار ترجمة صفقة الأسد والثور!! فالمؤتمر الوطني كان يهمه المظهر على حساب الجوهر، ويعتني «باللقطة» خصماً على الموضوع، هدفه الإخراج السينمائي ولا يبالي بالبرامج والقضايا المشتركة والخلافية مع جليس الطاولة!! كانت طبيعة اللقاءات بين المؤتمر الوطني والاتحادي «الأصل» لغزاً محيراً مثل الأسطورة الإغريقية القديمة، إذ لا يمكن أن تلمس الحقائق المجردة ولا تستطيع أن تقيس الأشياء على وتيرة المعقول، وما وراء الستار كان قابلاً لكل الاحتمالات، فهل يصدق المرء بوجود مجموعة من منسوبي المؤتمر الوطني والاتحادي «الأصل» مكونة من شخصين من كل حزب كانت تعرقل التفاوض من وراء الطاولة؟! في خضم المشهد استطاع المؤتمر الوطني تصوير الاتحادي «الأصل» وكأنه يطلب بقايا المائدة من خلال حسابات تضخيم الذات والاشتطاط في الخيلاء وهو يرى من منظوره أن الاتحادي «الأصل» تنظيم زال بريقه ولمعانه وأصبح شوكة مكسورة!! وإذا كانت نتيجة الانتخابات قد وفرت مبرراً كافياً للمؤتمر الوطني لأن يحسم معيار المشاركة في السلطة مع الآخرين كما يريد؛ فإن مثل هذا الأسلوب قصير النظر يغفل دوران العواصف في المستقبل على الحزب نفسه، بل يجعله يتعامى عن أهمية وجود حزب يمثل الانفتاح على المسار الخارجي والمزاج السوداني والوسطية المجتمعية مثل الاتحادي «الأصل» الذي لا يمكن قياس وزنه الصحيح وخصوصيته من زاوية بعض المهرولين نحو السلطة من عضويته!! الكرامة الحزبية في الاتحادي «الأصل» متوفرة إلى حد بعيد ومعجونة بعبق التاريخ وألق الليبرالية وميزات الوطنية، لذلك لم يتقبل بقايا المائدة في عملية المشاركة، فهنالك رجال كالمتاريس وقفوا في مواجهة هذا المنهج السلبي حول ركوب قاطرة السلطة، وها هو مولانا محمد الحسن يرفض المشاركة من زاوية استحالة الضغط على المؤتمر الوطني لتطبيق القضايا المشتركة معه على أرض الواقع في حالة وجودهم في السلطة، بل يعلنها داوية قائلاً «لن نشارك في الحكومة القادمة». وعلى ذات السياق يحارب الأستاذ حاتم السر موضوع المشاركة بأسلوب السخرية الذكي فهو يتهكم على منسوبي حزبه الذين يرغبون في قطار الإنقاذ، واضعاً أمامهم عشر وصايا تجعلهم أدوات خانعة أمام جبروت المؤتمر الوطني، وتشمل الكوكبة الرافضة الأستاذ علي محمود حسنين بآرائه المحفوظة عن ظهر قلب، إلى جانب الشيخ حسن أبو سبيب، والدكتور جعفر أحمد عبد الله، والأستاذ محمد إلياس محجوب، والخليفة أحمد عبد الله كرموش، فضلاً عن معظم منسوبي المكتب التنفيذي لمنطقة الخرطوم، والفعاليات الحزبية بولاية الخرطوم والأقاليم والمهاجر، وكذلك أعداد مقدرة في قيادة الاتحادي «الأصل». لا يفوت علينا التعليق على حديث الدكتور كمال عبيد بجريدة الرأي العام بتاريخ 19 يونيو2010 وهو يؤكد بأن الاتحادي «الأصل» قرر المشاركة بعد فوات الأوان، فضلاً عن اعترافه بوجود أصوات عالية في الحزب لا توافق على المشاركة!! لا يخفى على أحد أن الهدف من تأخير خطاب التحاق الاتحادي «الأصل» بالسلطة يعكس نوعاً من التكتيك والإرباك من جانب مولانا، وربما مسايرة موجة الاحتجاجات الواسعة المناهضة للمشاركة نتيجة لطريقة المؤتمر الوطني الممعنة في الاستكبار وقطع الطريق أمام انتهازيي الكراسي في الاتحادي «الأصل». أوليس ما يدعو للتأمل والقراءة الفاحصة في فنجان القهوة؛ إشارات الأستاذ على السيد التي جاء فيها أن مولانا محمد عثمان الميرغني بيده كل شيء وأنه يتجاوز مؤسسات الحزب؟(صحف الحقيقة والأهرام اليوم بتاريخ 20 يونيو 2010م) وقد لا يقصد الأستاذ علي السيد الهجوم الشخصي على مولانا لكنه يريد أن يفتح الجدول حتى تنداح مياه التمارين الديمقراطية. الدروس المستفادة من محاولة مشاركة الاتحادي «الأصل» في التشكل الحكومي الأخير جسدت أن الرأي الآخر في العملية السياسية لا يعني مصادمة كتاب منزل أو رواية مقدرة في الأعالي!!