{ انتشرت كظاهرة وافدة، انتشار النار في الهشيم، أُغرم بها كل الشباب، وعُرفت لديهم كمؤشر للرقي والتحضر و«الراحة»، إنها (البرمودة) سواء أكانت من الجينز أو القماش المقوى أو النايلون، وبغض النظر عن كونها بجيوب كبيرة أو صغيرة، وألوان غريبة أو عملية، ورسومات وكلمات وشعارات أجنبية أو بدونها؛ إلا أنها أصبحت منظراً معتاداً في الشارع السوداني بمصاحبة (الشباشب) البيتية ذات الألوان والمقاسات العجيبة. وقد قبلنا بها على مضض، قبلنا بها وشبابنا (يُتَكِّلُون) بها في ظلال الأشجار وعلى نواصي الشوارع وفي سياراتهم وأمام (الدكاكين)، أو يتحلقون بها حول ميادين الكرة في الأحياء أو يدخلون بها إلى الجيران ويتجولون بها في طرقات (الحِلّة)، أما أن تتحول البرمودة إلى «موضة» ينحشر فيها أحدهم ليحضر بها إلى المستشفى أو عيادة الطبيب، أو يدخل بها علينا في المناسبات الاجتماعية وهو يجرجر رجليه بميوعة و(الجِّل) يلمع في شعره، وبشرته الندية تنضح بالكريمات والعطور؛ فهذا ما استنكرته شخصياً. وأخشى أن يأتي اليوم الذي يُسمح فيه لهؤلاء بارتياد مقاعد الدراسة ومدرجات الجامعة وهم يرتدون هذه (البرمودة) التي لا أعرف لاسمها أصلاً، ولا ما هي العلاقة المباشرة بينها وبين مثلث برمودة القاتل، حيث يعتقد أن هناك عرش إبليس اللعين. فيا شباب يا (حلوين) يا (رجال) المستقبل أي مستقبل ينتظرنا على أيديكم وسيقانكم البشعة تحاصرنا وتكادون تتعرون لو أمكن؟ وماذا بعد (دق السستم) والقمصان والتيشيرتات التي تكاد تتمزق فوق صدوركم من فرط الضيق؟ ماذا بعد اللُّبان والكريمات المبيِّضة؟ ماذا فعلتم لأجل الغد؟ وما هي مخططاتكم للسودان الجديد؟ وهل تعرفون أصلاً شيئاً عنه؟!! (2) أطفال... أطفال أنا أم، وهذا مبرر كافٍ لأحب الأطفال عموماً، لأني اختبرت -والحمد لله- (غلاوة وحلاوة الضنا)، وأشعر بالتعاطف و(الحنّية) تجاه كل الأطفال الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم، ولكن أحياناً يعتريني ذات الضيق والاستياء الذي أشعر به تجاه أبنائي الأعزاء بالمنزل، من تصرفات معظم الأطفال الآخرين، خصوصاً إذا كانوا في (بيت مناسبة). ولا لوم لي إلا على أولياء الأمور والأمهات تحديداً اللائي يعمدن لاصطحاب أطفالهن بكامل عددهم إلى بيوت الأعراس و(البكيات)، ليتحول الأمر في النهاية إلى ما يشبه مدرسة ابتدائية في فسحة الفطور. ومؤخراً عايشت عن كثب هذه الظاهرة التي بلغت حد المأساة في مناسبة سعيدة لجيران أعزاء أشهد لهم بالمروءة والكرم والتواصل الاجتماعي الدؤوب، الذي تحول في ذلك اليوم إلى نقمة، فقد كان منزلهم أشبه بيوم الحشر والعياذ بالله، رجال ونساء من كل حدب وصوب، وهذا يشير إلى قدرهم لدى الناس الذين هبوا جميعاً للمجاملة والمشاركة، وهذا يمكن قبوله مهما كان معدل الخسائر المادية؛ لكن أن ينضم إليهم هذا العدد الكبير جداً من الأطفال؛ فهذا، صدقاً، لا يطاق. فقد عمت الفوضى وعلا الصراخ وتزايد النِّطيط والجري والخراب، وازدحم المكان بالأطفال الذين تبدر من معظمهم تصرفات غير مسؤولة ومحرجة و(قليلة أدب) دون أن يكون لأمهاتهم وازع ولا ضمير يجعلهن يفكرن ألف مرة قبل اصطحابهم إلى أية مناسبة، حيث يتغول الصغار على كل اختصاصات الكبار فيسيطرون على الموائد ويحجزون الكراسي الأمامية ويشغلون معظم الأسرّة ليلاً ناهيك عن الحمام و(الشطيف واللعب بالموية ولقيط البارد والختف واللفح، و...الخ) من مؤشرات الإزعاج التي تسبب الضيق بسبب هؤلاء الأطفال الذين أرى أن عدم إحضارهم من الأساس يُعد فعلاً حضارياً ونوعاً من التقدير لأصحاب المناسبة الذين يقفون حائرين أمام هذا الغزو الطفولي الذي أعتقد أنه ما عاد بريئاً لأن الأطفال فقدوا براءتهم وهذا ما سنعود إليه لاحقاً على أمل أن يفيد الجميع النظر في أمر اصطحاب أطفالهم إلى المناسبات الاجتماعية. { المؤسف أنه لم يعد هناك أي طفل يعرف الخوف أو الاحترام أو الردع أو الزجر بل إنهم بارعون في المحاججة و(العين البيضاء)!