٭ ربما يذكر الكثيرون تلك الواقعة الطريفة التي حدثت على مدخل التعددية السابقة، والقوم يخرجون لتوّهم يومئذ من فصول «محاكم المهلاوي والمكاشفي» الشهيرة، تلك النسخة من الشريعة التي أعلنها الرئيس الراحل جعفر نميري، والتي أطلق عليها السيد الصادق المهدي مصطلح «قوانين سبتمبر»، قُبض على أحدهم والناس يومئذ في «فسحة الانتفاضة» وذلك قبل أن تحل عليهم أدبيات «المشروع الحضاري»، قُبض على أحدهم تفوح منه رائحة الاختمار، أأنت سكران؟ قال الرجل «سكران وشيوعي وكمان حلايب مصرية»! ٭ وربما يتساءل البعض، لماذا احتجنا الآن أن نقف أمام الدنيا لنقول بالفم المليان إن «حلايب سودانية»! وعلى الأقل أننا في «بلاد النيل والشمس والصحراء» والحركات المسلحة التي تعاني أزمة جبهات ملتهبة، حيث لم نفلح بعد في لملمة أزمة إقليم دارفور التي تشتت ما بين «الدوحة وطرابلس وباريس»، ولم نتنفس الصعداء بعد معالجة أزمة الحدود الشادية السودانية، حتى وأعلنا قفل الحدود بين ليبيا والسودان، وذلك على خلفية احتفاظ الثائر العقيد القذافي بالثائر خليل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة المتمردة. ونصف العام فقط يفصلنا على تقرير مصير الجبهة السودانية الأشهر، جبهة إقليمجنوب السودان، وفي هذا التوقيت يضطرنا الآخرون إلى أن نشهر «سودانية حلايب» ، فالأخبار الواردة من ذلك الصعيد تقول إن القوم صعدوا بالتزامن مع أحداث أخرى من «تمصير حلايب»، على افتراض أن السودان في هذا التوقيت غير قادر على الالتفات لهذه الجبهة، وربما رأى القوم هناك أن الجنوب في طريقه للانفصال، وربما أيضاً أن حركات التحرير المتعددة التي تشتعل في إقليم دارفور، ربما هي الأخرى تفلح في تقرير مصير الإقليم، لهذا وذاك وعلى طريقة «دار أبوك كان خربت ما تنسى تشيل منها شلية»، على افتراض أن دماء السودان وأراضيه ستتوزع على الجيران، لكن ألم يستعجل أخواننا هؤلاء؟ ٭ وسبحان الله، أن هذه النسخة من الحكام في السودان، وبرغم ازدحام ملفاتها، هي النخبة الوحيدة في تاريخ حكومات السودان الحديث التي بمقدورها أن تقول لا! هي الحكومة الوحيدة التي تمتلك الجرأة لتقول «سيدي الخديوي احترس خلفك شعب وتحتك أرض»! كما لو أن شعارنا في هذه المرحلة تحوّل شيخ العرب «تنقد الرهيفة أن شاء الله ما تنسد»! ٭ والتاريخ يعيد نفسه في بورتسودان وعلى وجه البحر المالح، ما أشبه الليلة بالبارحة، كنا يومها برفقة السيد رئيس الجمهورية للاحتفال من داخل ميناء بشائر على ساحل البحر الأحمر بتصدير أول شحنة من النفط السوداني، وكان التجمع الديمقراطي المعارض في أوج فعاليته، ولقد رشحت بعض الأخبار بأن خطاب السيد الرئيس سيكون تصالحي، وسيدعوا المعارضة للعودة للوطن والرشد وأن البلاد أصبحت تنتج النفط وتصدره، وكانت المفاجأة أن انقلب الأمر رأساً على عقب، فلقد ترك السيد الرئيس خطابه المكتوب وذهب ليقول «الداير يصالحنا يغتسل في البحر دا سبعة مرات»! وعلمنا ساعتئذ أن الأجهزة قد اكتشفت عمليات تخريب هائلة كان التجمع المعارض ينوي تنفيذها! ولقد اضطر السيد الرئيس الأسبوع الفائت أن يشهر ومن بورتسودان وأمام بحر المالح وكاميرات التلفزة العالمية «بأن حلايب سودانية» وذلك كرد فعل لعمليات التمصير التي تجتاح المثلث. وإياك أعني يا جارة، وبالمناسبة أن العزيزة مصر هي الأخرى تحاول أن تتنفس جنوباً، لكثرة الضغوطات التي ترزح تحت وطأتها في الفترة الأخيرة، والرأي عندي أن تتكامل وتتكالب الدولتان الشقيقتان لمحاصرة الملفات الباهظة التي تحاصرهما، فما قيمة صحراء مثلث حلايب أن فقدنا الموارد المائية الهائلة!