بدءًا من شهر يناير المقبل، سترتفع ضريبة المبيعات على أي شىء يشتريه البريطانيون فى بلادهم، أو يشتريه أي أجنبي يزورهم، من 17.5% إلى 20%، وهي نسبة زيادة ضخمة مفاجئة، ستوفر للخزانة العامة حوالي 13 مليار جنيه استرليني كل عام. لكن هذا الإجراء، من بين حزمة إجراءات أخرى كثيرة أعلنها وزير الخزانة البريطاني قبل أيام قليلة، لم يمثل مفاجأة كبيرة للمطلعين على الشأن البريطاني، إذ أن لندن تحمل على أكتافها الآن أثقل دين عام فى أوروبا كلها (باستثناء أيرلندا)، وتخشى أن يكون مصيرها مصير اليونان وربما أسوأ. تهدف «ميزانية الطوارئ» الجديدة إلى التخلص - فى خلال خمس سنوات لا غير - من هذا العجز الموروث فى الميزانية، الذى بلغ حجمه 149 مليار جنيه إسترليني. وحين يحدث خلل فى ميزانية الدولة - أية دولة - فإنها تحاول إصلاحه عادة، إما بزيادة الضرائب أو بالضغط المباشر على الاستهلاك أو بمزيج منهما. وفى هذه الحالة اختارت الحكومة البريطانية الجديدة مزيجاً منهما، لكنه مزيج ينتصر للخيار الثاني، خيار الضغط المباشر على الاستهلاك، بنسبة تقترب من 80%. بعبارة أخرى، هذه ميزانية «تقشف» صريح، تربط حزاماً ضاغطاً حول خصر المجتمع البريطانى. هذا الاتجاه نحو العودة إلى أصول الأشياء من خلال «اقتصاد التقشف» سيزعج الأمريكيين الذين يريدون تحقيق هدفين متقابلين فى الوقت نفسه: انتشال العالم من أضخم أزمة مالية في التاريخ المسجل من ناحية، والحفاظ على جذور الرأسمالية المالية التي يقع نظام الائتمان منها موقع القلب، كي تنبت فروعها وتترعرع مرة أخرى. وهذا الاتجاه نحو العودة إلى أصول الأشياء لا يصلح إلا حين تقع منه موقع القلب فكرة لا توجد أصلاً فى نظام الرأسمالية المالية، وهى فكرة العدالة. من أجل هذا، حرص وزير الخزانة البريطاني في مستهل إعلانه عن الميزانية الجديدة، على أن يعترف بأنها «قاسية» ولكنها «عادلة». الزيادة في ضريبة المبيعات تضرب المجتمع كله بلا استثناء، لكنها لن تمس أشياء من أهمها الطعام وملابس الأطفال والكتب والصحف، كما أن الحزمة الكلية للإجراءات تستهدف أصحاب الدخول المرتفعة وترحم محدودي الدخل وتضرب أصحاب الملايين تحت الحزام، بل إن الميزانية الجديدة، رغم أنها ميزانية تقشف، ستزيد من دخل أصحاب المعاشات وستؤدي إلى إعفاء نحو مليون شخص آخر ممن ينتمون إلى الطبقة الكادحة من دفع أي ضرائب على الإطلاق. فوق هذا وذاك، بدأت الحكومة بنفسها، فأعلنت عن تجميد عدد موظفيها وتجميد زيادة رواتب العاملين في قطاعاتها عدا محدودي الدخل منهم، بل إن ملكة بريطانيا العظمى بجلالة قدرها سيتجمد دخلها السنوي هي الأخرى. في ظل انخفاض معدل النمو عندنا وتفاقم الديون الداخلية والخارجية، نستطيع أن نتخيل وزير المالية وهو يمعن النظر في ميزانية من هذا النوع، فتلمع أريحيته لجانب منها على طريقة «ولا تقربوا الصلاة...». لا أحد في العالم يحب الضرائب، لكن الدرس الكبير الذي يوضع الآن أمام وزير المالية يتلخص في أن استطلاعات الرأي أفادت بأن البريطانيين لا يعارضون إجراءات اضطرارية من هذا القبيل، انطلاقاً من شراكة حقيقية بين الشعب وحكومته، أساسها الثقة المتبادلة والشفافية والعدالة. يسرى فودة