شهدت العلاقة بيْن الحركة الشعبية وعضويتها في قطاع الشمال، بعد الانتخابات، تراجعاً ملحوظاً، أرجعه المراقبون إلى الطريقة التي تم بها سحب ياسر عرمان من انتخابات الرئاسة دون تقديم مبررات مقنعة لعضوية القطاع، بجانب عدم إتاحة الفرصة لتضمين رؤية هذه القيادات في القرارات المصيرية القادمة بشأن الجنوب، ولهذا السبب ربما آثرت بعضها الصمت حيال كثير من القضايا مثلما كان الحال بالنسبة لقضية الوحدة والانفصال، فيما ظلت قيادات أخرى تتمسك بأطروحات زعيم الحركة الراحل د. جون قرنق، رغم المتغيرات السياسية التي طرأت على متبنِّي هذه الأفكار في الحركة، الذين يملكون مواقع صنع القرار، ومن بين هؤلاء القيادي الشمالي بالحركة د. محمد يوسف مصطفى، الذي سبق أن شغل منصب وزير دولة بوزارة العمل، والآن قرر التفرُّغ للتدريس. أيضاً يناقش هذه الأيام الشريكان ترتيبات قضايا ما بعد الاستفتاء، وبحسب ما قيل أن المؤتمر الوطني أقنع الحركة بخيار الوحدة، لكن لا أحد يدري ماذا حدث ويحدث داخل القاعات المغلقة. لمعرفة المستجدات التي دعت الأطراف إلى ترجيح خيار الوحدة وأسباب ابتعاد بعض قيادات الشمال في الحركة الشعبية وصمتهم، ومصير هذه الشريحة حال ترجيح الجنوبيين الانفصال، التقت «الأهرام اليوم» القيادي بالحركة الشعبية محمد يوسف مصطفى في حوار تناول قضايا الراهن وخيارات المستقبل، فإلى تفاصيله: { كيف تبدو لك صورة المشهد على ضوء اقتراب موعد الاستفتاء لتقرير مصير الجنوب؟ - الجنوبيون - حسب الاتفاقية - سيختارون بعد ستة أشهر الوحدة أو الانفصال.. وحدةً تقوم على الترتيبات التي أرستها الاتفاقية أو يؤسِّسون حكومةً مستقلة، ولهم الحق في اختيار ما يشاءون، وسنحترم خيارهم، لكن إذا لم يتّفق مع قناعاتنا وما نرى فيه خيراً للبلاد وللجنوبيين أنفسهم، فلن نقبله. { ماذا تقصد؟ - أقصد أننا سنحترم الخيار، لكن يمكن أن لا نقبله، فمثلاً إذا كنتِ مسيحية سأحترم خيارك، لكن لا يمكن أن أقبل بمسيحيتك، فهذا هو الفرق بين الاحترام والقبول، وهناك من يطالبنا بالقبول والاحترام حتى داخل الحركة الشعبية، خاصة خارج الجنوب، لكن إذا لم يتفق الاختيار مع خيار الحركة الشعبية القائم على السودان الجديد، فهذا لا يعني أن الحركة مجبرة على قبوله. { ماذا ستفعلون عندئذ؟ - سنعمل ونناضل ضد هذا الخيار لتغييره، لأنني لن أقبل بالانفصال. { لماذا؟ - لأنّه لا خير في الانفصال، سواء للمواطن الجنوبي أو المهمشين. { ربما أصبح مؤخراً خيار الحركة الشعبية، فعلى أي أساس بنيت هذه الاستنتاجات؟ - مرجعيتي هي (منفستو) الحركة منذ 1983م، الذي تمت صياغته بصورة معاكسة لصيغة أخرى كانت قد طُرحت من قبل أنانيا (2) آنذاك تنادي باستقلال الجنوب، وحينئذ كان رأي الحركة أن الانفصال ليس هو الحل، وإنما لا بدّ من قيام سودان جديد تسيطر فيه الحرية والديمقراطية واحترام الآخر. { حتى هذا الطرح واجه اعتراضات من داخل الحركة الشعبية، أليس كذلك؟ - نعم واجه مشاكل من داخل الحركة منذ طرحه، وحدثت معارك دموية وتصفيات خلال الثمانينات، وفي 1991م قام د. رياك مشار ولام أكول بانقلاب، لكن استمرت الحركة في تمسُّكها بالسودان الجديد وجدَّدت تأكيدها في مؤتمر 2008م. { لكن ألا تعتقد بأن هناك تحولات الآن حدثت غيّرت من قناعات بعض قيادات الصف الأول في الحركة الشعبية؟ - إذا كان هناك شخص غيّر رأيه ففي هذه الحالة سيعبِّر عن قناعاته الشخصية. { حتى إذا كان من صُنّاع القرار في الحركة؟ - حتى إذا كان مؤثراً، سيظل هذا رأيه مهما كان موقعه، وهناك مؤسسات في الحركة مثل المؤتمر العام ومجلس التحرير توكل إليها مهمة أيِّ تغيير، وهذا بموجب الدستور. { رغم ذلك سيؤثر على قناعات عامة الناس؟ - طبعاً، أنا لا أجادل في ذلك، فرأي الشخص القيادي في المواقع المؤثرة سيؤثِّر على رأي الآخرين ويتحكم في تصرفاتهم عند الاقتراع، لكن سيظل هؤلاء يعبرون عن قناعاتهم، بصرف النظر عن انتشارها وقبول الناس بها، ولا أعتقد أن هناك قيادياً تحدث بأنه مع الانفصال صراحةً حتى الآن. { سلفاكير تحدث للمواطنين صراحةً ودعاهم إلى التصويت للانفصال إذا رغبوا في أن يكونوا مواطنين من الدرجة الأولى؟ - سلفاكير أصدر بياناً ونفى هذا الحديث، فأنا وأنت وكل الساحة ندرك أن هؤلاء الناس أصبح لديهم رأي آخر ولا يتحدثون عن السودان الجديد، لكن على الأقل لم يُقال ذلك صراحة. { سودان جديد كلمة فضفاضة، ظلت تطرح هكذا، فما هي الأسس التي يرتكز عليها وإلى ماذا يهدف؟ - السودان الجديد يهدف إلى إضعاف المركز ونقل سلطاته إلى الأقاليم حتى تصبح مهمته تنسيقية، وبهذه الطريقة يمكننا الحفاظ على الوحدة وإبعاد شبح الحرب. { ماذا عن محتوى هذه السلطات؟ - تُترك هذه المهمة لأهل الأقاليم، ليطبقوا ما يرونه مناسباً، سواء أكان شريعة إسلامية أو غير ذلك، المهم هنا نقل السلطة إليهم. ًً{ بعيداً عن (منفستو) الحركة الشعبية، برأيك إلى أين تتجه المآلات بالنسبة لموضوع الوحدة والانفصال؟ - السياسة تخضع للتغيير حسب الظروف. { هل يمكن فهم تلويح بعض قيادات الحركة الشعبية بالانفصال في إطار العملية التفاوضية؟ - أرجو أن يكون ذلك، لكن السياسة لا تفعل ذلك. { اجتماع ترتيبات ما بعد الاستفتاء بين الشريكيْن اتسم بالهدوء وشبه الاتفاق على مسألة الوحدة، على الأقل نظرياً، هذا الأمر دعا الناس للسؤال ما الجديد الذي طرأ مؤخراً؟ - اجتماعات اللجان المشتركة غرضها التشاور حول قضايا ما بعد الاستفتاء، لأن هذه الأطراف أمام مسؤوليات، وفي هذه الحالة لا بد من العقلانية، والابتعاد عن حديث العواطف والتعبئة التي تحدث في الليالي السياسية، فالجلسات واللقاءات النزيهة والصريحة التي تتم بيْن الشريكين لا أريد أن أقول ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، لكن جو التفاوض يتطلب واقعية حتى يقبل كل طرف طرْح الطرف الآخر، وبغير ذلك يصبح الأمر «حوار طرشان». { قيل أن هناك مساومات تمّت، وثمنٌ دُفع للحركة الشعبية عربوناً للوحدة، فما حقيقة ذلك؟ - ليس لديّ معلومات مؤكدة، وأعتقد أن ما يتمُّ هو تفاوض يدعو إلى الحفاظ على وحدة البلاد بعيداً عن العواطف، وينطلق من أن المصلحة تقتضي وجودنا مع بعضنا حتى نستطيع مواجهة مشاكلنا ونتمكن من حلها، وإذا كان هذا لا يتم إلا من خلال تنازلات معقولة لماذا لا؟ وأنا لا أسميها مساومات، لكنه تفكير عقلي لمواجهة المشاكل. { ما هي القضايا التي تم نقاشها ووُصل فيها لاتفاق؟ - هناك قضايا تحتاج إلى نقاش، سواء اختار الجنوبيون الوحدة أو الانفصال، مثل الديون والجنسية وحركة الناس والحدود والمناهج والممتلكات، فلا بد من الاتفاق حولها من خلال تقديم كل طرف رؤيته، وفي النهاية تخضع الآراء لدراسة ويصل الناس لحل وسط. { حتى إذا كان الطرف الآخر محدِّداً أهدافه؟ - مناخ التفاوض يفزز معقولية في الطرح لا علاقة لها بالواقع، فدعونا نتحدث عن أن الناس يتنافسون من أجل تجاوز المشاكل وليس تقديم التنازلات. { ألا ترى أن مناقشة هذه القضايا بعيداً عن القوى السياسية الأخرى، سيلقي مسؤوليّة على عاتقي الشريكيْن؟ - طبعاً، سيلقي على عاتقيهما مسؤولية كبيرة، لأن الآخرين بعيدون، وفي هذه الحالة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية يتحملان مسؤولية ما يترتب على الاستفتاء. { أين قطاع الشمال وقياداته مما يجري في الساحة السياسية؟ - قطاع الشمال ليس بعيداً عن الأحداث، عمل بفاعلية وشارك في الانتخابات، ورئيسه مرشح الحركة لرئاسة الجمهورية، وقاد حملة ناجحة كسبت تعاطف شرائح واسعة، لكن لاعتبارات قدّرتها الحركة الشعبية كان الاتفاق انسحاب الحركة ومقاطعة الانتخابات في الشمال. { قرار انسحاب مرشح الرئاسة لم يرضِ قطاع الشمال؟ - القرار اتّخذه المكتب السياسي وكل أعضاء قطاع الشمال كانوا حضوراً. { لكنهم لم يكونوا أغلبية في الاجتماع؟ - صحيح لم يكونوا أغلبية لكنهم كانوا موجودين. { هذا لا ينفي عدم قبول القرار من قبل قطاع الشمال؟ - بصرف النظر عن قبوله، مؤسسات قطاع الشمال قبلت به، والنص الذي صدر مفاده «نحن قبلنا بالقرار ونرى تطويره بتوسيع دائرة الانسحاب بإدخال كل المرشحين في قطاع الشمال». { ياسر عرمان نفسه ظهرت في ملامحه تعابير عدم الرضا بعد ظهوره في المؤتمر الصحفي؟ - ربما شعر بعدم قبول القرار للمستمع والجمهور، لأننا في الحملة الانتخابية رفعنا سقف التوقعات، ولهذا السبب كانت مسألة الانسحاب تحتاج لشرح، والمؤتمر الصحفي لا يتيح ذلك، أنا لم أره، لكن هو كان جزءاً من اجتماع المكتب السياسي. { المراقب للشأن السياسي يتحدث عن اختفاء قيادات قطاع الشمال وابتعادها عن مواقع القرار، فما قولكم؟ - هذا سؤال صعب، لكن على أي اساس بنيت هذا الكلام، ما الذي كنّا نفعله ولم نفعله الآن. { التعبير والدفاع عن قرارات وسياسات الحزب بصورة دائمة؟ - لأنني في الماضي كنت وزيراً والآن لم أعد كذلك. { ولماذا ابتعدت عن المواقع التنفيذية؟ - لأسباب كثيرة سبق أن ذكرتها، من بينها شعوري بعدم الفعالية، حيث ظللت طيلة الفترة دون سلطات، كذلك بعد الانتخابات رفضت شغل اي منصب، فليس لدي وقت حتى أضيعه في شيء لا جدوى منه، وأنا إنسان ديمقراطي، إذا المؤتمر الوطني كما يقول كسب الانتخابات فينبغي أن يكوِّن حكومته ويصبح الآخرون معارضة، وفي تقديري من الأفضل للحركة أن تكون في المعارضة. { هي جزء من السلطة بموجب اتفاقية السلام، فكيف تكون معارضة؟ - هذا الأمر كان قبل الانتخابات، السلطة بعد الانتخابات تحدد وفقاً لنتيجتها، لكن المؤتمر الوطني لأسباب تخصه رأى مشاركة كل الناس وأنا شخصياً رفضت العرض. { على مستوى حزبك - الحركة الشعبية - لم يعد لك نشاط يذكر؟ - أنا ضد تفرُّغ الشخص للسياسة طالما لديه مهنة، كذلك أي إنسان يمكن أن يكون سياسياً له نشاط منظم وعمل مع الآخرين، وهذا لا يتطلب التفرغ، وأنا في مهنتي أمارس السياسة. { لكن ليس لدرجة عدم علمك بتفاصيل نتائج تفاوضات حزبك مع المؤتمر الوطني؟ - ليس بالضرورة أن يعلم كل الأعضاء بتفاصيل التفاوض قبل نهايته. { أليس بالضرورة تنوير القيادات بما حدث - كلامك صحيح. { وهذا لم يحدث؟ - كيف عرفت أنه لم يحدث، ليس كل ما يُعرف يُقال، الحديث الملزم عادة يُقال في المؤتمرات الصحفية، ولا أرى مصلحة في نشره قبل الاتفاق، لأن ذلك قد يؤثر سلباً على المفاوضات. { ياسر عرمان كذلك لا يبدو عليه الحماس السابق، والآن أصبح لا يعبّر عن قيادات الحركة التي برزت مؤخراً؟ - عن ماذا يعبّرون، تقصدين الانفصال؟ { نعم؟ - كيف يتكلم ياسر عرمان عن الانفصال؟ لكن بوصفه نائب الأمين العام حضر بعض الاجتماعات إلى أن تم ترفيعها الى الجهات الرسمية، ومازال يصرح للإعلام بصورة دائمة، ودائماً يصبح الحديث صعباً إذا لم تصل الأطراف إلى اتفاق، وياسر يعبّر عن قناعات المؤسسة بوصفه نائب الأمين العام، لكن أنا يمكن أن أعبر عن قناعاتي. { إذا اختار الجنوبيون الانفصال فما هو الخيار الجغرافي لدكتور محمد يوسف؟ - سأظل موجوداً في الشمال ومهموماً جداً بما سيحدث في الجنوب والشمال، لأنه بعد الانفصال ستفتح باب جهنم على الجنوب والشمال، وتتفجر المشاكل، وأتمنى أن أكون مخطئاً في تقريري، وهذا ما يشغلني، وعلى المستوى الشخصي لا توجد لدي أية مشكلة. { إذن أنت لا تنوي الهجرة؟ - أبداً، سأكون سأكون موجوداً مع أهلي أواجه ما سيتمخض من مشاكل إذا حدث الانفصال. { إذا عرض عليك الجنوب إمكانية امتلاك جنسية الدولة الأخرى؟ - أنا شخصياً لا أسمح لأي شخص أن يتحدث معي عن جنسية أخرى غير الجنسية السودانية، ولا مجرد طرح هذه الفكرة، والآن هناك كثير من القيادات في الحركة والمؤتمر الوطني لديها جنسيات أخرى. { حينئذ هل ستفكرون في تأسيس حزب؟ - طبعاً، فإذا حدث انفصال أو لم يحدث أعتقد أن حل مشاكل السودان تكمن في قيام سودان جديد فيه حرية وعدالة. { حزب، بعيداً عن الحركة الشعبية؟ - ستكون في بلد آخر.. فما دخلها حينئذ؟.