أويل، مدينة الفل والياسمين، ووجه السودان الواحد، عاشت على الدوام شاهدة على كسل الذهن السياسي، فدارته بفطرتها الإنسانية الخالدة، عبرت التاريخ سيراً عبر الأيام والسنين، واجتازته بمواكب التعايش والمحبة، تصعد مع موكب لتزدهر، ثم تهبط أكثر صعوداً مع آخر لتنتشله من وهدة الختل ودعاوى التشتت، مدينة ولدت كجدار للثقة بين أبناء الوطن الواحد، بعد جدر من الطوفان الأحمق؛ لتحقق نبوءة وحدة السودان في تنوعه، فاستضافت الملتقى التفاكري لولايات التمازج العشر، راغبة في وطن قوي شامخ، لذلك لم يكن بدعاً عليها أن تستدعي حكمة شيوخ الدينكا لتفتح آذانها وتحتشد لسماع أعقد قضايا الأمن والاقتصاد التي ترتبط بتداعيات وحدة السودان وانفصاله، حينما طرحها ولاة الولايات المعنية، وعدد من الوزراء الاتحاديين ونظرائهم من حكومة الجنوب، يرتجون لها ترياقاً يرى المراقبون أنه بمثابة الخطوة الأولى في طريق بناء سودان مستقر وآمن، ومن شأنه أيضاً قطع الطريق أمام ما يمكن أن يكتنف فترة ما بعد الاستفتاء من سوء. وها هي أويل تعطينا درساً في الحكمة وحنكة الحكم، لتقول إنها ليست مجرد (قطاطي احتوت الناس)، بل إنها المدينة التي ظلت على الدوام تقوم بدور الوسيط الاجتماعي والتجاري بين الغابة والصحراء، فمثلت فعلياً مستقبل السودان الذي لا يموت. في مطارها كان الاحتفاء كبيراً من طرف مضيّفي الملتقى الذين جاءوا لاستقبالنا وتسهيل معاملاتنا، فخرجنا في معيتهم إلى الشارع لاستقبال المدينة، وما أن اجتزنا شارع المطار ذا التراب الأحمر؛ حتى وجدنا أنفسنا في بطحاء مخضرة كأنها قطعة من جنان الله، زمانها غائب كأن الساعات ليست حداً فاصلاً بين وقتين، لا أحد يعيره انتباهاً، وإن كان وعد مؤتمر أويل قد تأخر لبعض الوقت، حتى عده المراقبون (علوقاً للشدة) لا يحتاجه فرس الاستفتاء، إلا أن نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه يعتبره عملاً خيِّراً كالذي تقوم به أويل، لا يرتبط بزمان، وأكد تصميمه على اقتفاء أثر مثل تلك الأعمال في جميع أنحاء جنوب السودان، على خلفية أن السودان سيظل وطناً واحداً مشتركاً لا ترتبط مصالح مواطنيه بالاستفتاء ونتائجه، مثلما قال لسان حال المدينة. الأمن ما له وما عليه؟ شكلت قضية الأمن محوراً رئيساً في مداولات الملتقى، حيث ابتدر الحديث فيها رئيس إدارية أبيي دينق أروب، من ثم تبعه عدد من ولاة ولايات التمازج الذين حملوا ضعف القوات الشرطية والأمنية وقلتها مسؤولية ما أسموه الفجوة الأمنية التي قالوا إنها ربما تؤثر على إجراء الاستفتاء المرتقب، وطالبوا بعدم تسييسها، واعتبروها مقدوراً على حلها قبل الاستفتاء. وقال أروب إن مشكلة منطقة أبيي الأمنية تتمثل في قلة الكادر الأمني الذي قال إنه لا يتعدى (300) جندي فقط، نصفهم من الفنيين. بينما حذر والي الوحدة تعبان دينق من تأثير التفلتات الأمنية على منطقته، وقال إنها تأتي لولاية الوحدة من داخل ولاية جنوب كردفان. وطالب تعبان والي جنوب كردفان مولانا أحمد هارون بالسماح له بوضع عناصر أمنية في جنوب كردفان أو تحمل مسؤولية حسم التفلتات. وكشف تعبان عن تدني إنتاجية البترول بولاية الوحدة، وأرجعه إلى عدم الاستقرار الأمني. في وقت كشف فيه وزير الداخلية المهندس إبراهيم محمود حامد عن خطة أمنية مشتركة لنزع السلاح غير القانوني في ولايات التماس بعد تعثر التمويل الذي وعدت به الدول المانحة، وحينما كانت المشكلة الأمنية هي قاصمة ظهر الاستقرار في المناطق المعنية؛ لم يكن أمام توصيات الملتقى التي تلاها أمين عام التخطيط الإستراتيجي الدكتور تاج السر محجوب إلا أن تشدد على ضرورة بسط الأمن بولايات التمازج، وتحديد الآلية التنسيقية من جانب حكومة الجنوب لمتابعة تنفيذ مقررات الملتقيات، علاوة على دعوة وزير العدل للتنسيق مع وزير الشؤون القانونية بحكومة الجنوب لتطوير الأداة القانونية لتقنين الأعراف القبلية والاجتماعية، وذلك ضماناً لتنفيذ مقررات ملتقيات الصلح، ثم الإسراع بتكوين لجنة سياسية على مستوى رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء تعنى بتسريع الخطى في ترسيم الحدود على الأرض بناء على ما وجهت به رئاسة الجمهورية، وذلك لضمان حسن انسياب البضائع وحركة المواطنين والتواصل، إضافة إلى اتخاذ إجراءات عملية لتسوية المشكلات الأمنية التي تطرأ بين ولايتي سنار وأعالي النيل؛ تحقيقاً للأمن والاستقرار بمناطق التداخل السكاني بين الولايتين. واعتبرت التوصيات أن أغلب المشكلات الأمنية هي نتاج لمعلومات مغلوطة، لذلك لم تر بداً من تفاديها والعمل قدر الإمكان على معالجتها سياسياً، واستنهاض الجهد الجماعي للتعامل المشترك مع هذه المعلومات، ورأت التوصيات ضرورة عقد اجتماع بين إدارة أبيي ووزارة الداخلية القومية وحكومة الجنوب ومجلس الدفاع المشترك وجهاز الأمن والمخابرات؛ لقراءة المعلومات الواردة عبر آلية مشتركة، وذلك ضماناً لتحليلها ومراجعتها وتأكيدها وإجراء المعالجات اللازمة في ضوء ما يسفر عنه التحقق من دقتها وصدقيتها. لا تعطني سمكة.... شهد ختام مؤتمر أويل افتتاح عدد من المنشآت الخدمية على يديْ نائب رئيس الجمهمورية ونائب رئيس حكومة الجنوب، كان أولها افتتاح محطة مياه أويل، ثم تلاها تدشين سفلتة طريقي أويل – ميرم، وأويل – واو بطول 165 كلم، و90 كلم، إضافة إلى 24 كلم داخل المدينة، بتكلفة بلغت حوالي مليار ومائتي جنيه محولة من صندوق دعم الوحدة ليتم تنفيذها خلال 6 أشهر فقط، حسبما قال وزير التخطيط العمراني عبد الوهاب عثمان، كما تم افتتاح مشروع كهرباء أويل، الأمر الذي وصفه حاكم شمال بحر الغزال الفريق بول ميلونق بغير الطبيعي، وقال إن ما أنجز شيء كبير، ظهرت الفرحة به في عيون الأطفال وحركة الكبار، وأضاف: لم نكن نحلم بأن تتم كل هذه الإنجازات. وقبل كل ما سبق فقد تناول المؤتمرون بالبحث مشكلات ضعف البنى الاقتصادية في الولايات المعنية، وحذروا من انشغال بعض المواطنين في ولايات التماس بزراعة المخدرات بدلاً من المحاصيل الأخرى ذات القيمة النفعية، حيث استهجن والي النيل الأزرق الفريق مالك عقار تعامل وزارة المالية في ما يختص بدعم المشروعات التنموية، ووصفه بالمعاكس لولايته. وقال عقار إن المالية ظلت باستمرار تتعلل بعدم توفر النقد الكافي وإغلاق سقف التمويل، وطالب بمعرفة كيفية إغلاق السقف ومتى ولماذا، وأشار إلى وجود شركات بالولايات قال إنها وهمية ولا وجود لها في أرض الواقع، في وقت اشتكى فيه والي سنار المهندس أحمد عباس من دخول قوات أمنية إلى ولايته، وقال إنها تجبر المواطنين والرعاة على دفع أتاوي غير قانونية، وأردف أن أعداداً كبيرة من قبائل رفاعة بولاية سنار تُجبر على مغادرة ولاية أعالي النيل بعد أن تؤخذ مواشيها، كما لم ينس المؤتمر مناقشة ما طرحه محافظ بنك السودان الدكتور صابر محمد الحسن حول عودة البنوك الإسلامية إلى جنوب السودان باعتبارها الأكثر اهتماماً بعمليات التمويل الأصغر، وزاد على ذلك وزير المالية الاتحادى علي محمود بتأكيده على أن الأزمة المالية التي ضربت العالم كانت نتاج التعامل بالنظام المصرفي التقليدي، لكن محمود لم يتوقع عودة البنوك الإسلامية إلى الجنوب قريباً، وقال في تصريحات صحافية إن عودتها لا تحتاج إلى مؤتمر يعقد، بقدر حاجتها إلى قرار سياسي من حكومة الجنوب، وتعهد محمود في الوقت نفسه بتقديم تمويلات نقدية لمشاريع زراعية تحل محل مزارع المخدرات. ماذا قالت التوصيات الاقتصادية؟ تناولت التوصيات بشكل عام صياغة إستراتيجية اقتصادية موحدة وفقاً لرؤية مشتركة لتنمية ونهضة مناطق التمازج من خلال استغلال الموارد المتعددة المتاحة لتوظيفها في سد الفجوة الغذائية، وتوفير الحياة الكريمة للمواطنين، وذلك من خلال ترجمة مقررات الملتقى إلى خطط اقتصادية واجتماعية ذات التزامات محددة. النظر في إنشاء مؤسسة تمويلية لولايات التمازج للاستفادة من الإمكانيات المتاحة، وجذب الاستثمار للمنطقة، لا سيما في المجالين الزراعي والصناعي، واتخاذ إجراءات عملية عاجلة لإنفاذ مبادرة وزارة الزراعة لنقل أحد الفرق التقنية الموجودة في الوزارة للعمل على تطوير إنتاج الأرز في شمال بحر الغزال بغرض تحقيق الاكتفاء الذاتي والتصدير ونقل التجارب التي بدأت في ولاية النيل الأزرق إلى ولايات التمازج الأخرى ثم إعطاء الأولوية القصوى لموضوع الأمن الغذائي مع تنسيق الخطط وتوفير التمويل لمشروعات محددة ذات جدوى اقتصادية تستجيب للميزات النسبية لولايات التمازج، ولما كانت عودة البنوك الإسلامية تحتاج ردحاً من الزمن؛ فلم يكن ثمة حل غير إعداد الترتيبات التي تكفل العمل بنظامين إسلامي وتقليدي للبنوك العاملة في مناطق التمازج، على أن ينظم بنك السودان المركزي ورشة عمل حول التمويل الأصغر لمناقشة أوجه التمويل الأصغر والاستفادة من التجارب، وفقاً لخصوصية البنية الاقتصادية في الولاية. كما شددت التوصيات على استحداث وسائل جديدة وفقاً لرؤية استثمارية ثاقبة للنظر في الموارد المتاحة في ولايات التمازج واستغلالها من خلال دعم دولي أو عون خارجي وذلك بهدف تحقيق المنفعة المباشرة واستدامة السلام في المنطقة، علاوة على الإسراع باتخاذ الإجراءات العملية لتنفيذ طريق الضعين راجا واو وطريق الضعين أويل لأهميته في تسهيل حركة انتقال السلع والأفراد بين ولايات التمازج، والبدء الفوري بتفعيل الجهد الشعبي لجمع التبرعات تحقيقاً لشعار «مليار دولار لإعمار الدار»، يوظّف لتمويل مشروعات التنمية بولايات التمازج، وإنشاء آلية مشتركة من الحكومة القومية وحكومة جنوب السودان لمتابعة تنفيذ المقررات وتحويلها إلى برامج عمل فعالة خاضعة لقياس الأثر. مهما يكن من أمر، فإن الملتقى في شكله العام قدم كثيراً من الأسئلة الملحة، ووضع يده على أكثر أعضاء الوطن ألماً، وقطع بإعلان توصياته نصف أشواط الإجابة، ولم يتبق أمامه غير النصف الآخر المرتبط بالتنفيذ، فهل سيجتاز الامتحان؟ مشاهدات لا يفوتها التوثيق على زخات المطر الاستوائي، طربت مدينة أويل ليومين متتاليين لغناء بلوم الغرب المعتق الفنان عبد الرحمن عبد الله الذي شارك في الفقرات المصاحبة للملتقى، وقد كشف لي عبد الرحمن عن أن نائب رئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان هاتفه شخصياً للمشاركة، مما يرجح ميول نائب الرئيس لغناء عبد الرحمن، وقد شاهدته طيلة زمان الوصلة الغنائية التي قدمها، يحرك رأسه طرباً مع موسيقى الأغاني، خاصة أغنية محمد حامد آدم: خمسة سنين طويلة مرّت ليلة ليلة ودمعة الشوق هميلة وراء الدمعة الهميلة تشرح شايلة حالي وتكتب في مثيلا قصة وردة جفت من فرق الخميلة.. أما نائب رئيس حكومة الجنوب الدكتور رياك مشار فقد ظلت ابتسامته عريضة طيلة أيام الملتقى، لم تغب رغم سخونة القضايا الأمنية والسياسية المطروحة للتداول بين الولاة.