{ تنتابه مرة أخرى موجة من الحزن العميق، دون أن يعرف لذلك سبباً، يحمله الحزن بعيداً إلى عوالم تحوم حوله بحسابات المكان والزمان، ولكنها في عالم الحزن العميق تهوم بعيداً بعيداً، تنفصل روحه عن جسده، روحه في عالم الحزن وجسده في عالم المكان والزمان، ولكن ثمة شيء ما يربط بين عالم الروح وعالم الجسد، تبكي الروح فيدمع الجسد، رغم ما يفصل بين العالمين من مسافة في الزمان والمكان، ومن طقوس ومن أحوال تتبدل بلا قانون وبلا منطق وبلا توقع، ينهض حال فيفنيه حال آخر، يظل عالم الجسد مستجيباً لعالم الروح وهو يستقبل إشاراته رغم ما يعتريه من وهن وموت حين تنفصل عنه الروح بتلك الطريقة المتصوفة، تهوم الروح في عالمها، ويظل عالم الجسد بلا روح جثة نائمة تسكنها حياة نائمة. { الحزن عالمه الجميل، تسعده دموعه فيحتفي بها كأنها قطرات من ندى، يركن إلى تأوهاته وهي تسلِّيه كأنه يهرب من حياة صاخبة إلى حياة هادئة، يستقبل آهاته كأنها نسمات ليل من ليالي الصيف، سكنت فيه الأشجار عن الحركة والأبدان تعرَّقت ولم تجف بعد، يرنو في كل ليل إلى السماء يصافح نجمة قصية، لا تلتقطها كل النظرات، يؤانسها وتؤاسيه، يكلمها بلسان يسكن وجدانه وبكلمات ترسمها نظراته على وجهها، يختصر السماء كلها في تلك النجمة، لا يرى سواها، تجري أفكاره وهي تحتشد تناصر عالم الحزن الذي يعيشه وحياة الأفكار التي يعيش لأجلها، تتصل أفكاره بالخالق مبدع الكون، بخالق نجمته القصية، يبكي بصوت ترتجف له الأبدان والقلوب، يقرأ ما تيسر من آيات عالمين مختلفين ولكن يجمعهما صوت البكاء ودموعه وطقوسه ومتعته وحلاوته وآيات من القرآن الكريم تشق سكون تلك الليلة.. { هكذا يحزن الرجل فيمتلئ قلبه إيماناً وحباً وتنهض في جوانحه طاقة لم تكن معتادة فيه إلا في مثل تلك اللحظات التي يتفكر فيها والناس نيام، يحصد أسرار الكون ويتعرف عليه، هي خلوته وطريقة عبادته، يصلي في تلك الليلة ويخشع داخل عالمه وقد بناه من داخل رحلة التفكر في خلق الله سبحانه وتعالى، هي رحلته مع الإيمان بالله سبحانه وتعالى وهو يتشوق باكياً للقاء الحبيب. { من منا يتفكر ويتدبر؟ النظر والقلب والعقل ثلاثية خارقة، أيقظ قواك الخفية ليزيد إيمانك، فقط أتْبِع النظر بتفكير عميق، ستغيب للحظات خاشعاً متبتلاً مرهفاً، ستعود أجمل مما كنت.