احتدام تذكُّري لك بالمطر ما لاح في الأفق البعيد قدومه إلا أعياني التصبُّر والحذر وتشتد بي حمى ادّكارك كلما غيث أطل أو انهمر وتتأزم الآفاق إرعاداً وإبراقاً ويكاد هذا القلب مني أن يفِر ويهزني صوت المطر ٭ عشتُ بعض طفولتي بمدينة كسلا، حيث كان الوالد يرحمه الله رحمة واسعة، يعمل بورشة الهندسة بهيئة السكة الحديد، وكنا نسكن بحي العمال الشهير الذي يجاور محطة السكة الحديد، لكني وقبل أن أذهب بعيداً في سرد وقائع هذه القصة، أحتاج إلى إذن من القارئ الكريم، وأنا مُضطر إلى أن أسند بطولة مقالي هذا لنفسي، حيث أكره أن أكون دائماً بطلاً لملاذاتي، غير أن المسألة هنا أقرب لثقافة «الشاهد الوحيد»، المهم في الأمر لم تبقَ في ذاكرتي من تلك الفترة (الكسلاوية) إلا صورة السماء الداكنة، وصوت الرعد المُرعب عندما يزمجر، ومشهد البرق عندما يملأ كل الأفق، مشاهد ترتعد لها فرائص الصغار والكبار، وكانت الوالدة، أطال الله عمرها، تهرع لتغطينا بتلك «البطاطين» الداكنة هي الأخرى خوفاً من البرق، الذي يُقال لنا إنه «يذهب بالأبصار» ، وإن لم تخنِ الذاكرة فإن تلك البطاطين الداكنة تُصرف لعمال السكة الحديد من الهيئة، فهيئة السكة الحديد التي تعجز الآن في أن تغطي فصلها الأول ومرتباتها، كان بمقدورها في ذلك الزمن أن تُغطي العمال وهم في دورهم، لم تبق في ذاكرتي من كسلا إلا تلك المشاهد المُرعبة، ظلمات بعضُها فوق بعض، البطانية الداكنة تحت قبة سماء أكثر دكانة والبرق والمطر والرعب. ٭ ثم تدور الأيام دورتها، وأُكلّف قبل عامين تقريباً أو أكثر، من قِبل مجلة اتحاد المصارف لأجري لقاءً مع الشاعرة روضة الحاج محمد، وروضة التي عاشت كل طفولتها وبعض صباها بمدينة كسلا كما لو أنها كتبت معظم قصائدها تحت تأثير تلك الأجواء الممطرة، ولم أندهش لغزارة المفردات الممطرة التي تحتشد بها أشعار روضة، ولئن كانت روضة قد ذهبت أكثر في هذا الطريق لدرجة، (واحترت في سر احتدام تذكري لك بالمطر)، فصاحب الملاذات في المقابل أكثر حيرة في أسرار احترام وتأجيج ذاكرته لمدينة كسلا بمواسم الخريف والأمطار، كما لو أن كسلا هي «مدينة الخريف والمطر» بلا منازع ، وتتأزم الآفاق أكثر والذكرى وتتجدد مشاهد الرعب إذا أضفنا «مشهد القاش» وهو يتوعّد المدينة بهديره وزبده وخروجه عن مجراه و..و.. وبالفعل قد أجريت لقاءً ممطراً مع الشاعرة روضة الحاج أو قُل لقاءً سيطرت عليه تلك الأجواء الراعدة التي تُثقل ذاكرتنا و.. و.. ٭ المهم في الأمر لقد كنت مستوعباً جداً لمشاعر روضة وأشعارها الهطّالة، وربما كان الشعر في معظم الأحيان ابن بيئته، وفي هذا السياق، أذكر مقولة حصيفة للشاعر الفلسطيني سميح القاسم، تخدم جداً فكرتي هذه، قال الأديب الراحل القاسم يوماً «نحتاج لعشرات السنين لكي ننقي الشعر الفلسطيني من الحجارة» وهذا مفهوم بطبيعة ومجريات الانتفاضة الفلسطينية، فكما يستخدم الصبية هناك الحجارة لمناهضة الغزاة المحتلين، كذلك اضطر الأدباء الفلسيطنيون، أو قُل أجبرت الحجارة الفلسطينية بالأحرى صُنّاع الأدب هناك لكي يشيدوا بها «عمارة القصائد»، أو قُل القصائد العمارات، فلئن كتب الأدباء هناك بالحجر فقد كتبت روضة الحاج هنا بعض قصائدها برزاز المطر و.. و.. ٭ والذي يدهشني، ربما أن ظروفي العمرية المبكرة لم تُتح لي أن أدرك بعض عيون القاش، كما عبّر عنها الشاعر عبد الوهاب هلاوي (مين علمك يا فراش.. تعشق عيون القاش) فكسلا التي تتداعى لي في هذه المواسم هي تلك السماء الداكنة والرعود المرعبة والقاش المفترس! ٭ مخرج.. لقد أهدتنا يوماً الأخت الأستاذة روضة الحاج بعض دواوينها، والآن نبحث عن ديوانها الكامل ولا نجده بالمكتبات، فهذه بعض مواسم الشعر والرياحين والمطر..