بالرغم من إنني من المتحمسين لفتح الأبواب للاستثمارات الأجنبية من جميع دول العالم لمساعدتنا ودعمنا في إنجاز عملية التنمية الشاملة وانتشال المواطن السوداني من مستنقع البؤس والتخلف إلا أنه ينتابني كثير من الخوف والقلق لأنني أعتقد أن أي مستثمر أجنبي عندما يتخذ قرار استثمار أمواله في دولة أجنبية فإنه يهدف لتحقيق مصالح خاصة به.. وهذه المصالح الخاصة به ليست بالضرورة أنها تتطابق مع المصالح الوطنية للدولة التي تستضيفه.. و لكن إذا كان لدى الدولة المضيفة رؤية اقتصادية محددة وخطط تنموية واضحة المعالم وكفاءة عالية في إدارة اقتصاديات البلاد في جميع المجالات فإنها تستطيع أن توائم بين مصالح المستثمر الأجنبي ومصالحها الاقتصادية كدولة مضيفة.. من هنا يأتي خوفي و قلقي لأنني أدرك أننا كدولة نعيش في حالة غيبوبة إدارية واقتصادية.. فنحن حتى الآن لا نعرف ماذا نريد بالمعنى التخطيطي التنموي..وكفاءتنا الإدارية في جميع المجالات متواضعة للغاية.. لذلك يمكن أن يستقبل السودان استثمارات أجنبية كبيرة ولكن الأثر الاقتصادي والاجتماعي على واقع المواطن سيكون محدوداً للغايةً و يظل الحال كما هو أو حتى أسوأ مما هو عليه الآن. إن تدفق الاستثمارات الأجنبية على أية دولة مهما كان حجمها لا يعني تطوراً وتنمية ونماء اقتصادياً و اجتماعياً بشكل تلقائي وإنما يحتاج إلى وجود دولة تضع ضوابط للاستثمارات الأجنبية وفق رؤية تنموية تخطيطية.. وأمامنا مثال مصر.. فالدولة المصرية استقبلت خلال فترة حكم الرئيس السادات والرئيس مبارك استثمارات أجنبية ضخمة للغاية ولكنها الآن ما زالت تعاني من أعراض أمراض التخلف الاقتصادي والاجتماعي بسبب الخلل الكبير في إدارة اقتصاديات مصر في جميع المجالات برؤية تنموية تخطيطية واضحة المعالم.. أيضاً أمامنا مثال السودان خلال السبعينات من القرن الماضي وتدفق الاستثمارات العربية والأجنبية وتبخرها دون جدوى اقتصادية واجتماعية. إن المدخل الرئيسي لاستعداد الدولة لاستقبال الاستثمارت الأجنبية وتوجيهها الى المجالات التي تخدم عملية التنمية الشاملة وتراقب أداءها العام هو إصلاح جهاز الدولة.. وعندما أقول إصلاح جهاز الدولة لا أعني ترميمه وترقيعه وإنما أعني تغيير جذري للكفاءة الإدارية والفنية والمهنية وهذا يرتبط بمراجعة القوى البشرية العاملة والأنظمة واللوائح والقوانين بهدف معالجة حالة الغيبوبة الإدارية والاقتصادية الحالية وبرفع الكفاءة بالقدر الذي يجعل الدولة قادرة على وضع الضوابط التالية للاستثمارات الأجنبية و مراقبة الالتزام بها:- أولاً: توجيه الاستثمارات الأجنبية نحو المشاريع ذات الأولوية التنموية للسودان وهذا بالطبع يتطلب بداية أن تكون لدينا أصلاً أولويات تنموية واضحة المعالم في جميع المجالات. ثانياً: المحافظة على الموارد الطبيعية وعلى التوازن البيئي.. فكمثال وكما ذكرت في مقال سابق فإن السماح لمستثمر أجنبي أن يزرع الأعلاف بغرض التصدير يعتبر فيه تدمير للموارد الطبيعية من ماء وأرض.. لذلك يجب أن يمنع تماماً تصدير الأعلاف للمستثمر الأجنبي بل والوطني.. فالأعلاف يجب أن تزرع في إطار مشروع للإنتاج الحيواني داخل السودان. ثالثاً: المسؤولية المجتمعية.. فعلى المستثمر الأجنبي أن يساهم إيجابياً وإجبارياً وليس إختيارياً في تطوير المنطقة التي يقيم فيها مشروعه من ناحية دعم الخدمات الصحية والتعليمية ومشاريع التنمية المحلية. رابعاً: توظيف العمالة المحلية وأن تنحصر نسبة العمالة الأجنبية في حدود 10% من مجموع العاملين وفقط بالمستوى القيادي والإشرافي.. فلا يعقل أن يكون هناك سائق شاحنة أو عامل لحام أو كهربائي وغير ذلك من العمالة الفنية البسيطة من العاملين الأجانب والبلاد بها جيوش من العمال الفنيين المهرة. خلاصة القول هي أن حاجتنا الماسة للمستثمر الأجنبي لا تعني التفريط في الموارد الطبيعية والبشرية للبلاد لأنها ليست ملكنا لوحدنا وإنما ملك لأجيال وأجيال قادمة و من مهامنا الوطنية المحافظة عليها.. وهذا يتطلب درجة عالية من الوعي الاقتصادي لحفظ المعادلة بين حاجتنا للمستثمر الأجنبي وحمايتنا لمصالحنا الوطنية.