الناظر للخلافات التي ضربت صفوف الحركة الشعبية (قطاع الشمال) خلال الأيام الماضية، وقادت إلى عزل ياسر سعيد عرمان، الأمين العام، من منصبه وسحب ملف التفاوض من بين يديه قبل استقالة عبد العزيز الحلو، نائب الرئيس.. الناظر لتك الخلافات يلحظ أنها أربكت المشهد السياسي وبات من الصعب التكهن بمآلات مستقبل التسوية السياسية في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، وربما تعيد الملف إلى مربعه الأول؛ خاصة وأنه من المتوقع أن تحدث بعض التغييرات في ملف التفاوض بعد إعلان (مجلس تحرير جبال النوبة) إيكال الأمر إلى الحلو وسط مغالطات عديدة حول إمكانية تنفيذ ذلك الإعلان وإنزاله إلى أرض الواقع وما يمكن أن يعترضه من عقبات سياسية على المستويين، المحلي والإقليمي؛ وهنا ارتفعت وتيرة التحليلات التي تشير إلى أن النوبة قد بدأوا يتعاملون بإثنية مع قضاياهم التي كانت تحت مظلة قطاع الشمال مجتمعة، ونفضوا أيديهم من القيادة الموحدة للحركة الشعبية، وأنهم أرادوا بتلك الخطوة أن يتوجه عقار وعرمان نحو جغرافية النيل الأزرق ليقررا بشأن مصيرها. حتى الآن لا يعدو الأمر سوى تكهنات بمآلات الأوضاع في المنطقتين مستقبلا، لكن على أرض الواقع باتت العملية السلمية برمتها في مفترق، مما يحتم فتح ملف التفاوض مجددا. وبرغم وصول العملية السياسية في الفترة الماضية إلى محتطها الأخيرة بعد جولات فاقت التسع، إلا أن وفدي الحكومة وقطاع الشمال باتا على مشارف تحقيق الأمر من خلال تجاوز العقبة الكؤود التي ظلت تنسف بكل جلسة تفاوضية، وهي مسألة المساعدات الإنسانية. لعل ارتفاع سقف المطالب لمجلس النوبة وإعلانهم حق تقرير المصير وتفويض الحلو بملف التفاوض، ومعلوم بقية المطالب التي كان يتبناها عبد العزيز الذي يستند في المرحلة المقبلة على الثقل الإثني الجماهيري والجهوي، وسيعمل على عدم تشتيت وبعثرة أوراق النوبة، متحصناً بالعاصمة التاريخية (كاودا) ويخشى البعض أن يكون مجلس تحرير النوبة اللاعب الرئيس خلال المرحلة المقبلة في تحديد مستقبل الجبال وفقاً للمرتكزات التاريخية التي يستند إليها، وأن يصبح شبيهاً بهيئة حكماء الدينكا بالنسبة لرئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت. ربما يمثل حديث إبراهيم غندور وزير الخارجية بأن "ما يحدث في صفوف الحركة الشعبية قد يؤثر على عملية السلام في المنطقتين"، ربما يمثل تعبيراً دبولماسياً لما يمكن أن يعترض الطريق حول المنطقتين مستقبلا، ويمكن أن يؤخذ في إطار سياسي آخر تقوده الحكومة، ويتعين أن نتذكر أن حديث غندور هو أول رد فعل رسمي لحكومة الخرطوم حول الأمر، وأن غندور هو الذي أمسك بملف التفاوض في وقت ما، ويدرك تماماً ملابسات الأمر والتعقيدات حوله. ويشير محمد مركزو كوكو القيادي بالمؤتمر الوطني في حديثه، ل(اليوم التالي)، إلى حتمية أن تتحرك الحكومة للسيطرة على الحراك وضرورة توظيفه لصالح عملية السلام، ويقول إنه حال سارت الأوضاع على ما هي عليه الآن، فثمة تغييرات كبيرة تلحق أضراراً بالعملية السلمية في المنطقتين بصفة عامة وجنوب كردفان بصفة أخص. واتهم مركزو ياسر عرمان بالعمل منذ سنوات على إقصاء أبناء النوبة الفاعلين من صفوف التنظيم وإبدالهم بموالين له، وصفهم بالشيوعيين، ووصف خطوة مجلس تحرير النوبة تجاه عرمان بأنها انقلاب أبيض على هيمنة عرمان على مفاصل القرار في تنظيم الحركة الشعبية، وقال كوكو إن الخطوة جاءت متأخرة وعلى الحكومة أن تأخذ الأمر بمحمل الجد عبر تكثيف اتصالاتها مع الراغبين في تحقيق السلام. ويخشى البعض من أن المسألة باتت أشبه باستنساخ لتجربة التشظي التي حدثت وعانت منها حركات دارفور في السابق، بدءاً من اتفاقية أبوجا وانتهاء باتفاق وثيقة الدوحة، ونقلها إلى مناطق جبال النوبة واستغلال الخلافات بشتى السبل، إلا أنه في ذات التوقيت قد يختلف الأمر بعض الشيء لسهولة الاختراق الذي ساعد في التشظي بالنسبة لدارفور واختلاف الجغرافيا والتوقيت والمغريات، إضافة إلى الطابع القبلي والإثني الذي كانت ترتكز عليه حركات دارفور، بعكس ما يراه البعض في أن الحركة الشعبية تعد تنظيميا سياسيا صارما لا يرتكز على الجهوية وإنما على مكونات تبدو قومية. ولعل مسارعة المؤتمر الوطني بالرد على تلك الخلافات وتبرؤه منها قد يعضد فرضية عدم اختراقه للتنظيم؛ خاصة وأن أي انشقاق في صفوف القطاع سيؤثر على التسوية السياسية، كما أنه سيفتح عدة جبهات، وحينها ستمتد دائرة القتال، مما يعد خصماً على السلام في ظل سعي المؤتمر الوطني لتحقيق الأمن والاستقرار. ويقلل فيليب عبد السميع، عضو المجلس التشريعي لولاية الخرطوم، من التشظي، ويقول في حديثه ل(اليوم التالي)، إن ما يحدث داخل (قطاع الشمال) محض حراك داخل المنظومة، ويعد جزءاً من المكون التنظيمي للحركة الشعبية التي تشمل المنطقتين؛ وأشار إلى أن اعتماد مجلس تحرير النوبة لتقرير المصير وسحب ملف التفاوض من قبل ياسر عرمان، يحتاج للتقنين القانوني من خلال المؤتمر العام لتثبيت حق تقرير المصير؛ خاصة وأن الأمر سبق وأن طرح من قيادة الحركة في الحكم الذاتي للمنطقتين، وأن ما حدث الآن تجاوز النيل الأزرق، واستبعد فيليب مقارنة (مجلس جبال النوبة) بهيئة حكماء الدينكا. ونبه فيليب إلى أن كل القرارات مرهونة بترتيبات المؤتمر العام وأن مجلس تحرير النوبة لا يملك المقدرة على عزل عرمان أو اختيار تقرير المصير، وإن الأوضاع ستكون على ما هي عليه، ويتوقع عودة عرمان لقيادة وفد التفاوض حال أعلن الوسيط الأفريقي ثابو أمبيكي استئناف المفاوضات. وأوضح عبد فيليب أن مسمى مجلس تحرير جبال النوبة غير صحيح، وشابه (اللغط الإعلامي)، وأن التعريف القانوني هو (مجلس تحرير الحركة الشعبية – قطاع جنوب كردفان– جبال النوبة)، ونبه إلى أن جنوب كردفان لا تمثل إثنية النوبة فقط؛ وإنما تتعداها إلى آخرين، وذكر أن قيادة الحركة الشعبية سبق وأن وقّعت على خارطة الطريق التي شهد عليها المجتمع الدولي، وأن مطلب تقرير المصير كان غير موجود حينها، وأنه لا يمكن الآن إرغام المجتمع الدولي على إلحاق بنود جديدة بالاتفاق.