كانت الساعة تتجه ببطء صوب منتصف ليل الثاني عشر من ديسمبر 1999م الموافق الرابع من رمضان .... قطع كل من الإذاعة والتلفزيون القوميين إرسالهما.... ونبها لبيان مهم سيذيعه رئيس الجمهورية عمر حسن احمد البشير للشعب السوداني ....لم يطل الانتظار كثيراً إذ أطل الرئيس بعد قليل وسرد عدداً من القضايا والأزمات بين الجهازين التنفيذي والتشريعي ممثلا في المجلس الوطني الذي كان يترأسه الراحل د/حسن الترابي ....مشيراً لتعثر مساعي التوفيق بين الطرفين ....الأمر الذي استدعى ممارسته لسلطاته التي خولها له الدستور ....لذلك قرر حل المجلس الوطني وإعلان حالة الطوارئ بالبلاد وهو ما عرف بقرارات الرابع من رمضان... او (المفاصلة ) بين الاسلاميين. تمر اليوم الذكرى(18 ) على هذا الحدث ...و(الاخوان ) اكثر اقتراباً على اثر الحوار الوطني وتكوين حكومة وفاق وطني تمسك كل طرف بأخيه في الحكومة الجديدة....بالرغم من حالة النفور السابقة... لم يكن الحدث عادياً عندما ظهر الرئيس عمر البشير على التلفزيون بالزى العسكري وبعبارات قوية وصارمة أنهى فيها أجل المجلس الوطني واضعاً حداً لعلاقة تميزت بالنفور والتقاطعات مع الراحل الدكتور حسن الترابي .... وتبع ذلك بإعلان حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد... لمدة ثلاثة أشهر...وتعليق مواد فى الدستور متصلة باختيار الولاة... قاطعا الطريق على التعديلات الدستورية التي كان يناقشها البرلمان.... والخاصة بتغيير انتخاب الولاة ... وتحويلها من مجلس الولاية بترشيح من رئيس الجمهورية إلى الناخبين في الولاية بالاضافة الى إعفاء رئيس الجمهورية اذا صوت بذلك ثلثا أعضاء البرلمان....البلاد الان تستنشق نسمات الحوار الوطني الذي امتد لسنوات كان المؤتمر الشعبي اكثر اقتراباً وتوافقاً حول اجندته رغم الترنح احيانا حيال بعض القضايا الخاصة بالتعديلات الدستورية الاخيرة...الا ان مشاركته في الحكومة (قطعت ) الطريق امام القطيعة التي استمرت لاكثر من 17 عاماً.... دلالة التوقيت... تعود ذكرى المفاصلة هذا العام في توقيت بدت المفارقة فيه واضحة بين الامس واليوم.... في واقع جديد اعتبره البعض يمثل التقارب بين فرقاء المشهد الإسلامي في السودان لم يكن متاحاً في السنوات السابقة... ظل حزب المؤتمر الشعبي متمسكاً بدعوة الحوار التي دعا لها رئيس الجمهورية في الفترة السابقة ولم ينحز الحزب الأكثر معارضة للدعوات التي دفع بها حلفاؤه في المعارضة من أجل مغادرة طاولة الحوار والعودة إلى خط المواجهة.... وظل أمينه السياسي كمال عمر متخندقاً في الطاولة ومطالباً الآخرين ب(الاندغام ) داخل دعوة المشروع الوطني الجديد باعتباره المدخل الصحيح للخلاص في البلاد التي لا تحتمل مزيداً من المواجهات والصراعات لدرجة أن الرجل مضى في حديث عنيف رداً على منتقديه وحزبه وأنه صار أقرب للوطني من عضويته مكتفياً (أنه من حقنا مثل كل القوى السياسية الأخرى أن نتجه نحو الوحدة ) ..فهل تمثل وحدة الشعبي والوطني بعد 18 عاماً من المفاصلة وحدة لمواقف سياسية لاستمرارية مشهد الحوار الوطني ؟...وهل تمثل تلك السنوات من (الجفوة ) دروسا وعبرا لمراجعات تفيد الحركة الاسلامية في مستقبلها؟.... تراكمات خلافية... يقول عضو مجلس قيادة ثورة الانقاذ الاسبق ونائب رئيس مجلس الولايات الدكتورمحمد الامين خليفة فى قراءته لقرارات الرابع من رمضان : ( لم يكن خلافا بل تراكمات من الخلافات المستمرة منذ منتصف التسعينيات.... كان الخلاف في كل شىء في السياسة الخارجية وفى ادارة الحكم وطهارة اليد والشفافية والقوانين )..مضيفاً ان المشاركة هدفت الى وحدة الجماعة لمعالجة المشاكل التي ظل يعاني منها السودان، مشيرا الى ان مخرجات الحوار الوطني احتوت على كل المعالجات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. محاولات الإصلاح... على الرغم من الخلاف لم تقف محاولات الاصلاح بين الاسلاميين... فكانت هنالك العديد من المبادرات التي حاولت الجمع بين المتفارقين من الاسلاميين ... فى مقدمتها مبادرة المؤتمر الوطني برئاسة البروفيسور عبد الرحيم علي... ومبادرة عباس الخضر لجمع الصف الاسلامي...ومبادرة الدكتور يوسف القرضاوي.... وكذلك السعى الحثيث الذي قام به الشيخ عبد المجيد الزنداني من اليمن في وساطة لم يكتب لها النجاح.... لتنتهي كل تلك الوساطات الى طريق مسدود، وعبر الشيخ الزنداني عن ذلك الفشل في التوصل الى حل حين قال (امساك بمعروف او تسريح بإحسان )...ويقول عباس الخضر ل(الصحافة ) كثرت المحاولات لوحدة الاسلاميين بهدف اغلاق الباب على المتربصين بالاسلام.... وليس لدينا أجندة سابقة أو مُلزمة إنما الباب مفتوح لكل من يريد أن يقدِّم طرحاً...حرصنا أن نلتقي على الأهداف الكبرى للبلاد بالحفاظ على السودان وشعبه وثروته وسيادته، بالحوار الشامل في كل القضايا، الفساد والتداول في السلطة وإفراز الشورى والتمسك بها، نريد أن نفتح المجال لشورى حقيقية... ونريد الصفاء والنقاء، نحن لا نقول يكون الناس ملائكة، لكن الإنسان خطّاء وبتوحدنا يمكن تكملة نواقصهم، ونريد أن نغلق الطريق على الاستهداف العالمي الذي يستهدف الإسلام في كل العالم بما فيه السودان. الروح التوافقية... انخفضت الان وتيرة حالة التخاصم الحادة بين الإسلاميين بعد إعلان حكومة الوفاق الوطني المشكَّلة من القوى المشاركة في عملية الحوار الوطني ... ووجدت سنداً قوياً من الراحل الترابي، وبموجب ذلك سادت روح توافقية بين (المعسكرين )، حيث يشارك الشعبي في السلطة بعد ان ظل قابعاً لسنوات في الصف المعارض... مابين تحالف مع التيار اليساري وآخر مع الاحزاب التقليدية... وصنف المحلل السياسي د/ صلاح الدومة مفاصلة الرابع من رمضان، ضمن العواصف والأحداث الكبيرة التي مرت بها الساحة السياسية السودانية، ويقول: هذا حدث يجب وضعه في الاعتبار والاتعاظ من مسبباته لمراجعات تفيد الحركة في المستقبل. ركود السياسة... بالرغم من ان شهر رمضان يعتبر من أكثر الشهور ركوداً في التاريخ السياسي الا ان الأحداث التي جرت فيه وتسمّت باسمه ظلت عالقة في الذهنية السودانية كقرارت حل المجلس الوطني وإعلان حالة الطوارئ اتخذت في ديسمبر ورمضان ولكنها أؤرخ لها باعتبارها (قرارات رمضان ) بالاضافة الى المحاولة الانقلابية التي تمت في السنة الأولى للإنقاذ في ابريل 1990م والتي عرفت بانقلاب رمضان... الناظر الى مسيرة التقارب بين الشعبي والوطني يلحظ جملة من التكتيكات والمناورات السياسية التي تُبين رؤية المشهد الحقيقي بعد نفض ذرات غبار المشهد المنثورة بأمر الترابي حسب اعتقاد البعض في إطار تكتيك سياسي محدد فإن الخطوة في مجملها استعادة الشعبي لمواقعه القديمة وان تلك تحالفات مرحلية تقتضيها المرحلة....وهكذا مضت الايام والسنون على مفاصلة الاسلاميين وسفينتهم تبحر وتجد مرساها في حكومة الوفاق الوطني...وتلوح في الافق بوادر وحدة اسلامية واتفاق على ما اختلفوا فيه... فبالرغم مما ثبت فى نفوسهم من مرارات كان اكبر من اختلافاتهم السياسية والفكرية الا ان الحركة راكمت رصيداً كبيراً من الإنجازات ونصيباً لا يستهان به من الأخطاء يصلح أن يعتبر به الإسلاميون خلال المستقبل.