الأحد: حسين خوجلي ومختارات علي المك نَعى الدكتور عبد الله علي إبراهيم، على الحزب الشيوعي أن قام بتزوير بعض وثائقه السياسية ووصف ذلك في مقال شهير تحت عنوان (خفة اليد الثورية)، إذ هاجم الحزب الدكتور منصور خالد ووصفه بأنه عميلٌ للإمبريالية. وفي طبعات لاحقة لهذه الوثيقة قام الحزب بإسقاط هذه الاتهامات وحذفها من متن الوثيقة دُون أن يُشير إلى ذلك أو أن يَعترف أنه قام بمُراجعات اقتضت إسقاط التُّهمة الغليظة من الدكتور منصور. ولَعلّ التحوُّلات في موقف الحزب الشيوعي من منصور أنه شاركه صناعة مشروع السودان الجديد تحت قيادة قرنق، لا سيما وأنّ الحزب طبع بصمته الماركسية المُميّزة في المنفستو الأول للحركة الذي وصف سكان السودان بأنهم عرب مُزيّفون. وظل الحزب جُزءاً من تَحالفات الحَركة في الداخل. ولم يشفع لمنصور عند الحزب الشيوعي أنّه وَقَفَ ضد حَل الحزب بواسطة الجمعيّة التّأسيسيّة في منتصف عقد الستين، وأخذوه بجريرة المُشاركة في مايو. وقفت على نموذج آخر من تعديل الوثائق والكتب أجدر أن يُسمى (خفة اليد الأدبية)، إذ أعادت مجلة الدوحة القطرية طباعة كتاب البروفيسور علي المك (مختارات من الأدب السوداني) يُوزّع مَجّانَاً مع مجلة الدوحة في العدد 88 للعام 2015. وأسقطت المجلة التي تتبع لوزارة الثقافة القطرية مقالاً للأستاذ حسين خوجلي أورده البروفيسور علي المك في طبعة الكتاب الأولى الذي أصدرته دار جامعة الخرطوم للنشر. ولَم تَعتذر المَجلة أو تُنوِّه لإسقاط المقال. نموذجٌ آخر لكن هذه المرة بفعل المؤلف، إذ اختار الشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم أن يسقط قصيدة (21 طلقة لهانوي) من ديوان أعماله الكَاملة في نُسختها الذي نشره (مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي). وقد أوضح الشاعر محمد المكي موقفه الأدبي من إسقاط هذه القصيدة من ديوانه الكامل في مُناسبات مُتفرِّقة. الاثنين: جيرزالده والعودة للواجهة الثقافية عادت جيرزالده أو (الجوهرة) أرملة البروفيسور الراحل عبد الله الطيب إلى الواجهة الثقافية مجدداً بتدشين عملٍ مُشتركٍ مع الباحثة الألمانية اينكو ناغي عن الأزياء السودانية. أصدرت الباحثتان كتاباً مرجعياً مهماً عن تاريخ وتطور الأزياء السودانية عبر مُختلف الحِقَب. أصل الكتاب بَحثٌ أعدّته وحرّرته جيرزالده عن الأزياء السُّودانية منذ ستينات القرن الماضي وفقاً للثّقافات والتقاليد والقبائل والمناطق الجُغرافية. مُدعّماً برسومات واسكتشات قامت برسمها شخصياً منذ ستينات القرن الماضي. نَفضت الباحثة الألمانية اينكو ناغي الغبار عن هذا الكنز الثقافي المهم، وقامت مع المُؤلفة بإعادة تنقيحه وتجديد الرسومات الإيضاحية وصدرت منه نسخة غاية في الفن والبهاء. السيدة اينكو سبق وأن أصدرت كتاباً مُهمّاً عن التوثيق الثقافي في كردفان أسمته (رمال في عيوني.. لحظات سُودانية). وقدّم لهذا الكتاب مدير اليونسكو والدكتور منصور خالد وحُظي باهتمامٍ ثقافي كبيرٍ في معظم أنحاء العالم وتمّ تنظيم عدة معارض للكتاب في ثماني دول أوروبية وشاهد لوحاته أكثر من 400 ألف زائر في معظم العواصم الأوروبية . عبّرت جيرزالده أكثر من مرة عن الغُبن الذي أحسّته، أن الطيب صالح أصبح رمزاً ووجها للأدب السوداني بمجهود قليل، وأن العالم الراحل عبد الله قدم خدمات جليلة للأدب والفكر والثقافة السودانية، وأن السودانيين لم يقدروا مواهبه وجهده وإنجازاته العلمية. أُجدِّد تنويهي السابق عن ضرورة نشر كتاب السيرة الذاتية لمدام ياجي الذي عاشت تجربة شبيهة بتجربة جيرزالده أعدّه أحد أبرز المترجمين السودانيين في الأممالمتحدة. لعل الفرق الوحيد أن جيرزالده جاءت من لندن في أربعينات القرن الماضي ومدام ياجي جاءت من باريس في عقد الستينات. الثلاثاء: د. أحمد المعتصم وحضارة مروي أصدر الدكتور والسفير أحمد المعتصم الشيخ ترجمته للعمل التاريخي الكبير (مروي حضارة سودانية) للبروفيسور ب. ل. شيني. وصدرت الترجمة في ثوبٍ قشيبٍ وقدم له البروفيسور علي عثمان محمد صالح. وعرف عن الدكتور أحمد المعتصم وهو سفير سابق عن إبداعه الوافر ورصانة الترجمة التي تُعتبر قيمة مُضافة للكتاب، وهو سبق وأن ترجم كتاب جي ب اسبولدينغ (عصر البطولة في سنار). يقدم الكتاب معلومات ثرة عن تاريخ حضارة مروي التي يصفها البروفيسور شيني بأنها حضارة إفريقية. ويعود احتفاء المؤلف بالحضارة المروية كما قال البروفيسور علي عثمان محمد صالح، لأنّه كان منزّهاً من المركزية الأوروبية كما أنه أحب السودانيين وارتبط بحيواتهم وثقافتهم. جاء شيني إلى مروي العام 1947 بدعوة وتشجيع من عالم الآثار أ. جي. أركل ليكتشف حضارة مُدهشةً في قلب إفريقيا وفي وقت مفصلي من تاريخها. هذا كتابٌ جَديرٌ بالاحتفاء والاقتناء، وكذلك نرفع قبعة التقدير للدكتور أحمد المعتصم لحُسن اختياره والترجمة العلمية والأكاديمية المُبدعة لأحد أهم الكتب عن حضارة مروي القديمة. الأربعاء: الكشاف عاد الأستاذ ضياء الدين بلال رئيس تحرير صحيفة (السوداني) لمُواصلة مشوار إبداعه التلفزيوني من خلال برنامج (الكشاف) على قناة سودانية 24، باحثاً ومُنقِّباً ومُدقِّقاً في تاريخ السودان السياسي الحديث عن شخصية الرئيس الراحل (جعفر نميري ظالم أم مظلوم؟). وأستطيع أن أدعي وأزعم أن برنامج (الكشاف) يُعد جوهرة البرامج السياسية في هذا الموسم ليس بسبب براعة مُقدِّمه وخبرته الإعلامية المُمتدة أو لشخصية الرئيس الأسبق جعفر نميري التي اتّسمت فترته بتقلب الأحداث وضجّت بالعُنف والدماء، لكن لنجاعة نهج البرنامج في التحقيق والتنقيب عن حقائق التاريخ، إذ استضاف واستنطق شخصيات شاركت في مايو وساهمت في صنع أحداثها، كما شاركت أيضاً رموز من المعارضة السودانية. لفت نظري وجود شبه إجماع من المتداخلين على مختلف مشاربهم السياسية حول شخصية نميري، إذ أكد د. منصور خالد أنّ في شخصية نميري حياءً، إذ أنه يتجنّب مقابلة أيِّ شخصٍ تمّ عزله لتفادي الإحراج. واتّفق الدكتور علي شمو والسيد مبارك الفاضل علي أنّ ضرب الجزيرة أبا كان بتحريضٍ من الشيوعيين والقوميين العرب وليس اختياراً شخصياً لنميري. وقال مبارك الفاضل إنّ عنف نميري جاء لاحقاً ووضح جلياً مع فشل انقلاب هاشم العطا أو ما يُسمى بالحركة التصحيحية. لعلّ ما أدهشني أيضاً اتفاق كل المتداخلين أنّ نميري لم يكن يضرب وزراءه. وقال د. علي شمو إن هذا اتهامٌ غير صحيحٍ، لأنّ الوزير يمكن إعفاؤه من منصبه إذا فشل في مُهمّته ولا يحتاج إلى عنف. أما منصور خالد فقد قال إن وزراء نميري كانوا نخبة من أفضل طبقات الخدمة المدنية والأكاديميين وخبراء المنظمات الدولية، لذا لم تكن تتسابق هذه النخب للمناصب الوزارية، وقال إن هذا سؤالٌ سخيفٌ والعقل الذي أنتجه أسخف. ولعلي شاركت من قبل في استثارة جدل هذا السؤال من خلال شهادة عابرة للأستاذ حسن عبد الوهاب ورد على هذه الشهادة الأستاذ مصطفى البطل بأسلوبه المميز وسخريته المالحة. قدم الأستاذ ضياء هذا البرنامج بأسلوبٍ جاذبٍ ومُميّز في الاستنطاق والربط والتحقيق.. متماسك في نصه وموضوعي في إفاداته فأنتج لنا حلقة عالية القيمة في البحث عن الأسئلة الجوهرية في تاريخنا السياسي الحديث. الخميس: البُعد الفكري الغائب لمُحاربة الفساد سَعدت بالجدل والحوار الذي نتج عن نشر مقالي الأسبوع الماضي عن البُعد الفكري الغائب في مُحاربة الفساد. ولعل طموح أيِّ كاتب يُحبِّر أفكاره في الفضاء العام أن يجد تفاعلاً ونقاشاً ونقداً من جمهرة القرّاء. استدرك على المقال من ظنوه طعناً في الإنجازات الماثلة من خدمات اجتماعية تشهد عليها برامج محاربة الفقر ونشر التعليم والتأمين الصحي. كما غضب أيضاً زمرة من الأيدولوجيين المُعارضين ممن ظنوا أن المقال هو إعادة ترقيع لثوب الإنقاذ الفكري واستدراكٌ على إخفاقات نظرية وعملية وإعادة تدويرها في سوق السياسة من جديد وهو أمرٌ لم يعد يجد فتيلاً. لا يَهمني الاتفاق أو الاختلاف حول أطروحة المقال النظرية، لكن أن يستمر الحوار والجدل على روح من التسامح الفكري دون تشغيب أو شقاءٍ بالرأي لما فيه فائدة البلاد والعباد.