(نشرت هذا المقال في رمضان الماضي ومَرّ عَامٌ ولم يَتَغيّر شيءٌ في المشهد السِّياسي والفكري في المنطقة العربية والإسلامية. أُعيد نشره من باب العظة والاعتبار لسيرة وكسب الدكتور محمد أسد في نظرته السديدة للتاريخ). كَانت أذهان بعض المُعتمرين في رمضان مشوّشة، إذ تتداخل أصوات قناتي "العربية والجزيرة" وهي تتناول الحدث الأهم في المنطقة العربية مع تلاوة الشيخ السديس في الحرم المكي وهو يؤم الملايين لصلاة العشاء والتراويح. لم يكن لأصداء القطيعة بين بعض دول الخليج وقطر أي تداخلات مع مُقتضيات العبادة والتدين في شهر رمضان المبارك. سكت الشيخ السديس في دعاء صلاة التراويح عن ذكر إصلاح ذات البين، وذلك لأنّ قطر حسب مزاعم بعض الصحفيين السعوديين دخلت في مُحرّمات المنطقة الحيوية لتدق إسفيناً في العلاقات التاريخية مع شُيوخ المُؤسّسة الدينية في أرض الحرمين. لم تكن تلك تأمُّلات في صلاة جَريحة كما أرادها الأستاذ عبد المحمود الكرنكي في جرأته المشهودة، كما لا أملك اجتراحات الصادق النيهوم الصادمة، وهو في عزلته المجيدة بجنيف يسدد ويقارب ويدعو إلى تثوير دور المسجد. لم يكن طريق ليوبولد فاليس إلى مكة مُعبّداً فقط بالنوايا الحسنة فحسب، بل مليئاً بالتحديات أيضاً، ففي الوقت الذي كان فيه فورد صاحب شركة السّيّارات الأمريكية العملاقة يستحث المُفكِّرين والكُتّاب لتدوين كتاب "اليهودي العالمي" الذي نُشر في شكل مقالات بصحيفة "ديربورن انتدبندت"، كان ليوبولد فاليس على الضفة الأخرى من الأطلنطي يستكمل دراسة "جيروم" وهو التّفسير المُعَقّد من التلمود في الديانة اليهودية بدفع من والده رجل الدين اليهودي الأرثوذكسي. كانت مدينته فيينا هادئة تكتسي حلل النصر وانكسارات الحَرب العَالمية في العقد الثاني من القرن العشرين. كان ابن مدينة فيينا الآخر سلاطين باشا يُواصل مُغامراته في إفريقيا، حيث عاد مع جيش الغزو الإنجليزي لينتقم ليس من مقتل غردون ولكن من الخليفة عبد الله الذي أذلّه وأذاقه الأمرين وهو يأمره بالعُكُوف على باب داره طوال اليوم لا يفصلها إلا أوقات الصلاة. وجد فاليس بعد انتقاله إلى برلين لاحتراف مهنة الصحافة فُرصة مُواتية في العام 1922 للسَّفر إلى القُدس ليكسر أعمق قناعاته المُترسِّخة عن الدين الإسلامي الذي صوّرته له عقيدته اليهودية وكذلك عقدة الاستعلاء الأوروبي تجاه الشرق والإسلام. عندما كان فورد في أمريكا يكتب ويستحث المُفكِّرين لكتابة كتابه الأهم الذي سبّب له المشاكل "اليهودي العالمي"، الذي يكشف خصائص اليهود وقُدرتهم الفائقة في اكتناز الأموال والسّيطرة الاقتصادية والسياسية والإعلامية ويُؤكِّد أنّهم خَطَرٌ على مُستقبل أمريكا السِّياسي والثقافي، كان النمساوي فاليس اليهودي الديانة يقف حَائرَاً وهو يقول إن الإله في العهد القديم يبدو مشغولاً أكثر من اللازم باليهود أي شعب الله المختار ولا يكترث كثيراً لباقي البشرية. شَكّلت له هذه التساؤلات دافعاً إضافياً لروح الاكتشاف والمُغامرة. عندما شَهِدَ صلاة المُسلمين لأوّل مرة في القدس وقف مشدوهاً وقال للإمام لماذا تصلي لله بهذه الحركات الآلية ألا يكفي أن تصلي بقلبك فقط؟ فكانت إجابة الإمام البسيطة هي أول فتح تأملي لذلك التوازن العجيب بين الروح والجوارح. إذ قال إننا نصلي لله بالروح والبدن معاً. بعد أربع سنوات من البحث والسفر في العالم الإسلامي مُتأمِّلاً أحوال المُجتمعات الإسلامية ومراسلاً لصحيفة "فرانكفورت زايتونغ" التي اكتسب فيها شُهرة عظيمة، وقف فاليس أمام رئيس الجمعية الإسلامية ببرلين ليعلن إسلامه. كانت برلين في المَخيلة الأدبية العربية هي المكان الذي لجأت إليه الأديبة مي زيادة في غربتها الروحية وهي تكتم لواعج حبها على جبران خليل جبران، رغم أنّ عمالقة أدباء مصر خطبوا ودها. لكن كأن محمد أسد اصابته روح غوته شاعر ألمانيا العظيم وهو يكتب عن روحانية الشرق وعظمة الإسلام. هكذا جاء إسلام محمد أسد من باب التأمُّل الفكري المَحض أو مَا سَمّاه التكامل الفذ بين العمق الروحي والسببية العقلية. ولم يأتِ محمد أسد خالي الوفاض إلى الإسلام، طالباً حفظ المتون والمُدوِّنات القديمة، بل جاء يَحمل تأمُّلاته الفكرية وتساؤلاته الفلسفية ويقدم إجابات حقيقية عن أسباب انحطاط الحضارة الإسلامية. كان يقول قبل إسلامه إنّ الفكرة السائدة في أوروبا أن الإسلام هو سبب انحطاط المُسلمين، إذ أنّه بمُجرّد التخلي عن الإسلام سَيتم تلقائيّاً ترقي المُسلمين في مَصَاف الحَضَارة الحَديثة. لكن أزمة المُسلمين كما قال محمد أسد قبل ثمانية عقود هي أنهم لا يحيون كما أمرهم الإسلام. وكان رأيه القاطع والعميق أن المسلمين ليسوا هم من خلقوا عظمة الإسلام، لكن الإسلام هو الذي خلق عظمة المُسلمين، وبمُجرّد أن تحوّل إسلامهم إلى عادةٍ وابتعد أن يكون منهجاً وأسلوباً للحياة خبا وهج النبض الخلاق في تلك الحضارة وحلّ محلها العقم والتقاعس وتحلل الثقافة، لأنّ الحضارة الإسلامية قُوة مُنتجة للثقافة. وقف فورد في أمريكا ليكتب اعتذاراً مكتوباً لليهود بعد نشر كتابه "اليهودي العالمي" الذي تُرجم للعربية لأول مرة العقد الماضي بعد أن تمُت مُصادرته من المكتبات وأصبح اقتناؤه أو الاستشهاد بمَادته يدخل في باب جريمة المُعاداة للسامية في الغرب، في المُقابل وَقَفَ محمد أسد ضد اعتذارية الإسلام. وقال عندما شاهد أتاتورك يُقدِّم صكوك الاعتذار عن الإسلام للغرب أن ذلك يُعمِّق من روح الانهزامية وأن الإسلام يجب ألاّ يعتذر لأحدٍ. إذا كان الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وبن عاشور من حملة التجديد في العصر الحديث، فإنّ محمد أسد امام الرفض ضد الاعتذارية الإسلامية. أصاب السودان سهمٌ من روح البحث الوثابة عند محمد أسد عندما جاء ابنه طلال أسد إلى السُّودان ليستكمل دراساته عن الأنثربولوجي في بادية الكبابيش بكردفان. بعد نحو عقدين ونيف من وصول محمد أسد صاحب كتاب "الطريق إلى مكة" الذي أودعه سيرته الذاتية وقصة إسلامه إلى المدينةالمنورة، جاء الداعية محمد الغزالي إلى المدينة مُعتكفاً ليكتب كتابه المُهم "فقه السنة"، وقد تلمّس ذات المَنهج الذي اختطه محمد أسد في تأمُّلاته عن الإسلام وهو يدعو لنبذ المَسكنة ونهج العبادة الساكن وينادي للتمسك بنهج السنة الصحيحة، إذ يقول إنّ الذي أضر بالفهم الصحيح للسنة ليس الاستشهاد والاستدلال بالأحاديث الضعيفة والموضوعة ولكن إدراك المعاني العملية اللازمة من الأحاديث الصحيحة، وقال إنّ نفسه نفرت من الاعتكاف في المسجد النبوي لتكاثر الجماعات المسلمة التي أحالت المسجد إلى عوائدها الاجتماعية دون إدراك المغازي الصحيحة من روح الإسلام. يقول الغزالي رحمه الله أتاني وفدٌ من أهل المغرب يودون المجاورة بالمسجد النبوي وهجرة بلدهم لدواعي الاحتلال الفرنسي، فقال لهم إنّ الدين يأمركم بالعودة ومقاومة المُستعمر وليس الاعتكاف في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم. كان محمد الغزالي على نهج محمد أسد ضد التدين الساكن الذي يؤثر الخلاص الشخصي. كلما أكرمني الله تعالى بزيارة للمسجد النبوي وأنا أرقب تدافع المُسلمين للظفر بالصلاة في الروضة الشريفة، والعاطفة الدينية المُتوهِّجة والاخبات في العبادة وأداء الصلوات والمناسك، وَقفت عند تساؤلات محمد أسد عن عجز هذه الحشود الهادرة والقلوب الخاسرة من شتى أصقاع العالم الإسلامي لتعيد ذلك النبض المبدع والخلاق والحيوي للحضارة الإسلامية. وقفت مُستمعاً لأحد شيوخ العلم والدرس في الفقه والتوحيد في المسجد النبوي الشريف عقب إحدى الصلوات، كان درس التوحيد عن القضاء والقدر من تراث الإمامين الجليلين ابن تيمة وابن القيم الجوزية. وكانا يردان في كتبهما على تحديات عصرهما والأقضية التي واجهتهما، في عصر الابتلاءات والفتن. مع سطوع شمس ذلك اليوم أدركت أنّ الذاكرة الإسلامية لا تزال جريحةً بصليل سيوف الفتنة الكُبرى، واستذكار أدلة التراث على قضايا تجاوزتها آلة الزمن وتحديات العصر. وقفت محيياً اجتهادات محمد أسد رغم حداثة سنه بالإسلام حينها ليقف ضد الاعتذاريات الإسلامية، وقلت ليت محمد الغزالي سكت عن رأيه بقُبُول مُجاورة بعض أهل المغرب للمسجد النبوي فراراً من مُقاومة المُستعمر الفرنسي حينها، وليت المُفكِّر الراحل حسن الترابي سكت عن أمامة المرأة في الصلاة، إذ لم تَعد نشرة الأخبار في قناتي "الجزيرة والعربية" تشوِّش على قراءة الشيخ السديس في الحرم المكي، لكنها تفعل في ذهن المُتلقي العربي حتى يقرأ في دعاء التراويح: "اللهم ألِّف بين قلوب المُسلمين واصلح ذات بينهم، واكفف سخطك وغضبك عنا يا أرحم الراحمين".