أسئلة كثيرة تحيط بالحراك السوداني المستمر منذ أكثر من شهر. تقابلها حيرة النشطاء الذين يقودون الشارع في الخرطوم عن أسباب تأخر حراكهم في بلوغ الزخم الذي أخذته انتفاضة الشارع العربي في أكثر من بلد عربي في عام ألفين وأحد عشر. هناك حتى شعور بالغبن بين الكثير من السودانيين من أنهم تُركوا وحدهم في مواجهة نظام يصعّد يمارس قمعه براحته. سيكون من الخطأ، ومن الظلم، مقارنة ما يجري في السودان بانتفاضات 2011. رغم أن الأسباب هي نفسها والأهداف المرجوة كذلك، ليس من الإنصاف المقارنة بين 2011 و2019. جرت مياه كثيرة من تحت الجسور منذ «الربيع العربي» غيّرت الكثير من الواقع وجرفت أشياء منه لن تعود ولن تتكرر. نحن الآن في سياق آخر مختلف إلى حد التناقض. السودانيون الذين في الشوارع يدفعون ثمن ظروف خذلتهم أكثر من كونهم ضحايا عالم تخلى عنهم. لنلاحظ: في مقابل تحمس الولاياتالمتحدة في 2011 للإطاحة بالعقيد معمر القذافي ولو بالقوة، وصمتها عن الإطاحة بحسني مبارك وزين العابدين بن علي والثورة على بشار الأسد (في البداية) وعلي عبد الله صالح، تعمل (واشنطن) اليوم في الخفاء لينجو نظام الرئيس البشير من غضب السودانيين. فرنسا لا تختلف عن واشنطن في الموقف من ثورات 2011 وانتفاضة السودانيين اليوم. ومثلها بريطانيا وبقية الدول الغربية المؤثرة في السياسات الدولية. هذا عدا عن الدول التي وقفت منذ البداية ضد «الربيع العربي» مثل الصين وروسيا، وهي اليوم وفيّة لسياساتها السابقة التي تمليها مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية مع الأنظمة العربية. كانت ثورات 2011 قريبة من بعضها ومتشابهة في ظروف دولية شجعت عليها. كان المزاج الشعبي، وحتى الرسمي، عربيا وأجنبيا، متجاوبا مع نداءات التغيير. أما اليوم فتبدو هبّة السودانيين يتيمة في محيط دولي وإقليمي، ليس فقط لا يشجعها، وإنما مناوئ لها. لو أن السودانيين انتفضوا في النصف الأول من سنة 2011، كما يفعلون اليوم، لوجدوا الكثير من الدعم القريب والبعيد، ولربما كان الرئيس البشير اليوم خارج السلطة، حيًّا أو ميتًّا. ولو انتفض شعب عربي آخر اليوم، كان العالم والمنطقة سيواجهانه بالتجاهل الذي واجها به حراك السودانيين. وهكذا بتنا أمام مشهد معكوس تماما: الدول الإقليمية التي عُرفت تقليديا بدعمها لثورات «الربيع العربي»، مثل قطر، تقف موقفا حذراً إزاء ما يجري في السودان. بل إن أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، هاتف الرئيس البشير في بداية الحراك معربا عن تضامن قطر مع السودان في هذه الظروف. في المقابل، انحازت دول اشتهرت بتحريضها على الثورات المضادة وبوقوفها ضد طموحات الشعوب في التغيير، مثل السعودية، إلى المعسكر الداعم للحراك الشعبي السوداني. يتجلى ذلك في التغطية التلفزيونية المكثفة والداعمة للمحتجين التي تخصصها التلفزيونات السعودية («العربية» و«الحدث» بالخصوص) لأحداث السودان. إضافة إلى أنه لم يرد في الأخبار أن العاهل السعودي أو وليّ عهده هاتف البشير للتعبير عن التضامن معه. وإذ يبدو الموقف القطري منطلقا من اعتقاد، وربما قناعة، بأن ثورات 2011 يصعب أن تتكرر لأسباب موضوعية وذاتية، تعطي السعودية الانطباع وكأنها تخبئ شيئا لنظام البشير. فضلا عن أنها تتخذ موقفها الحالي منه مدفوعة بارتباكه في علاقته بالرياض والمحور السعودي والإماراتي. فباستثناء مشاركته في التحالف السعودي الإماراتي بحرب اليمن، لا يبدو النظام السوداني متناغما جداً مع مغامرات السعودية الكثيرة، بينما تنتظر منه هي دعما يشبه الاستسلام. كما يبدو أن الموقف القطري هو الذي أملى الموقف السعودي، لأن الأزمة الخليجية المستعرة منذ أكثر من سنة ونصف السنة، جعلت أن أحد البلدين لا يقف حيث الآخر. تداخلت هذه الظروف ومعها تداعيات 2011 في كل من سوريا ومصر وليبيا، وأدت إلى انتشار التوجس والخوف. محليا أصابت الاضطرابات والحروب الأهلية الناس بالذعر، ودفعتهم إلى الاستسلام لمقولة أن الأمن والاستقرار أهم من الديمقراطية والتغيير. وفي الخارج أصاب الإرهاب المتدحرج ككرة ثلج الحكومات الأجنبية المؤثرة دوليا بالذعر وفرض عليها الاستسلام لقناعة أن أنظمة حكم توفر الأمن للدول الغربية، أفضل حتى لو مارست شتى أنواع الديكتاتورية بحق شعوبها. سقطت كل الشعارات وتراجعت القيم، ووجدت الشعوب العربية نفسها في مواجهة الحقيقة المُرَّة. طبعا لم نصل إلى هنا بالصدفة. يجب أن نتذكر أن أموالا هائلة أنفقتها حكومات عربية رجعية وظلامية (بالمعنى السياسي) وجهوداً جبارة بذلتها، كي يبقى الإنسان العربي في ظلامه. وقد نجحت إلى حين. كل هذا صبَّ في مصلحة الرئيس عمر البشير. محظوظ هذا الرجل من حيث لا يحتسب، رغم أنه فعل بالسودان ما لن يفعله به ألدُّ أعدائه.