مناوي: المدن التي تبنى على الإيمان لا تموت    الدعم السريع يضع يده على مناجم الذهب بالمثلث الحدودي ويطرد المعدّنين الأهليين    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    بالصورة.. "حنو الأب وصلابة الجندي".. الفنان جمال فرفور يعلق على اللقطة المؤثرة لقائد الجيش "البرهان" مع سيدة نزحت من دارفور للولاية الشمالية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    القادسية تستضيف الامير دنقلا في التاهيلي    تقارير تتحدّث عن قصف مواقع عسكرية في السودان    بمقاطعة شهيرة جنوب السودان..اعتقال جندي بجهاز الأمن بعد حادثة"الفيديو"    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالفيديو.. عودة تجار ملابس "القوقو" لمباشرة البيع بمنطقة شرق النيل بالخرطوم وشعارهم (البيع أبو الرخاء والجرد)    شاهد بالصورة.. السلطانة هدى عربي تشعل مواقع التواصل بلقطة مثيرة مع المطربين "القلع" و"فرفور" وساخرون: (منبرشين فيها الكبار والصغار)    مانشستر يونايتد يتعادل مع توتنهام    ((سانت لوبوبو الحلقة الأضعف))    شاهد بالصورة والفيديو.. حكم راية سوداني يترك المباراة ويقف أمام "حافظة" المياه ليشرب وسط سخرية الجمهور الحاضر بالإستاد    شاهد بالفيديو.. مودل مصرية حسناء ترقص بأزياء "الجرتق" على طريقة العروس السودانية وتثير تفاعلا واسعا على مواقع التواصل    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    شاهد بالفيديو.. "بقال" يواصل كشف الأسرار: (عندما كنت مع الدعامة لم ننسحب من أم درمان بل عردنا وأطلقنا ساقنا للريح مخلفين خلفنا الغبار وأكثر ما يرعب المليشيا هذه القوة المساندة للجيش "….")    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بالصور.. أشهرهم سميرة دنيا ومطربة مثيرة للجدل.. 3 فنانات سودانيات يحملن نفس الإسم "فاطمة إبراهيم"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عمار ديوب: مشكلات السودان وأهداف الثورة
نشر في رماة الحدق يوم 30 - 04 - 2019

تفجّرت الثورة السودانية في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018، بعد ارتفاع أسعار الوقود والخبز والمواد الأساسية. توسع عدد المشاركين فيها، وديمومتها، وانتقالها إلى أغلبية مدن السودان، أجبر الرئيس عمر البشير على الرحيل، بعد تدخّل الجيش، في 11 إبريل/ نيسان 2019، وبدأت بعد ذلك مرحلة تفكيك النظام بأكمله. يتم التفكيك بقوة التظاهرات، والتي لم تغادر ساحة الاعتصام الرئيسية. قوى الأمن والجيش فشلت في إنهائه مرات، بل وقد استلم الجيش زمام الحكم، وعزل البشير، واعتقل معظم رموز حكمه؛ الجيش هو جيش البشير، ولنلاحظ ألاعيب قياداته، عبر تشكيل مجلس عسكري انتقالي، بالاتفاق مع البشير نفسه، والتغيير فيه تباعاً، وبما يسمح بضبط الثورة و"تلهيتها" عن استلام السلطة هي بالذات. الثورة هي التي تفرض كل هذه التغيرات، ولكنها تتدرج في الوصول إلى أهدافها بدورها أيضاً؛ وهدفها المرحلي: تشكيل حكومة مدنية ومجلس سيادي "مدني وعسكري"، ومجلس تشريعي انتقالي، وأن تكون نسبة مشاركة المرأة في كل هذه الهيئات 40%، وكذلك تمثيل التنوّع الإثني، من أجل إدارة شؤون البلاد، ريثما تتهيّأ شروط الانتقال الديموقراطي.
مشكلات السودان
أبرز مشكلات السودان الاقتصادية أنه يعاني ديناً تجاوز 65 مليار دولار، وتضخماً في العملة فاق 70%، وهناك تهميش الصناعة والزراعة، والنهب المنظم للاقتصاد وللثروات، وفشل تجربة البنوك الإسلامية، وقد بدأت ملفات الفساد تفتح أمام القضاء، وطاولت عمر البشير ذاته. مشكلات السودان تتعلّق أيضاً في شكل النظام السياسي، كنظام استبدادي، ويستند إلى أحكام دينية خاصة، وفقاً لتأويلاتٍ تتناسب مع البشير ونظامه، وهناك مشكلة الهوية والتنمية في الأقاليم، والصراع حول هوية السودان يعود إلى ما قبل الاستقلال، وسَبّبَ حربين أهليتين، من 1955 إلى 1971، ومن 1982 إلى 2005، وطاول معظم أقاليم السودان، ويتمحور حول سؤال ما إذا كان السودان دولة إسلامية عربية أم دولة متعددة الثقافات والأعراق. كان لرفض السودان الشمالي الاعتراف بالتنوع، ومحاولة فرض الهوية العربية الإسلامية على كامل أقاليم السودان، دور مركزي في الحروب الأهلية، وكذلك ساهم النظام الاستبدادي في حروب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وجبال النوبة وآيبي؛ وبالتالي، يفتقد نظام "ثورة
"يعاني السودان من دين تجاوز 65 مليار دولار، وتضخم فاق 70%، وتهميش للصناعة والزراعة، ومن النهب المنظم للاقتصاد وللثروات"
الإنقاذ الوطني"، والذي تشكّل بعد الانقلاب العسكري 1989، ضد النظام الديمقراطي الذي أرسيت أسسه في 1985، إثر ثورة شعبية ضد جعفر النميري، وعبر تحالف العسكر مع الجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي حينها، يفتقد إلى أية أسس دستورية وأنظمة وقوانين حداثية وثابتة للنهوض بالسودان.
مع البشير وحسن الترابي 1989، استعاد النظام، ودعّمَ ما كان قد أرساه "الإمام" النميري من أحكام وأنظمة إسلامية، قبل 1985 وتعزّز ذلك بعد انقلاب البشير على حسن الترابي 1999، وطوال تلك الفترة، وعلى الرغم من التوسّع بأعمال استخراج النفط، لم يتجه السودان نحو النهوض، وبدلاً من ذلك، حافظ البشير على رؤية حسن الترابي في شؤون الحكم، أي لم يقطع مع أفكاره الإسلامية، وقد همّش مؤسسات الدولة، وشكل أجهزة ومليشيات شعبية وطلابية تابعة للمؤتمر الوطني، أي للحزب الحاكم، وليس للدولة، وكانت منظماتٍ "إسلامية" بامتياز. وفي هذه الأجواء، اشتدّ سعير الحرب الأهلية مع الجنوب "المسيحي والإثني"، وهو ما أدى إلى ويلاتٍ في السودان بشقيه، الجنوبي والشمالي، في آن واحد.
إذاً هناك مشكلات متعددة، اقتصادية وسياسية وقومية وعرقية وقبلية، وجميعها أدت إلى أن يصبح النظام ضعيفاً، ويفتقد الرئيس إلى سياسات قوية، ويصبح معزولاً إقليمياً ودولياً؛ وقد أنتجت الجرائم في إقليم دارفور، والذي شهد مجازر جماعية وممارسات مافيوية، أحكاماً قضائية على عمر البشير نفسه، عام 2008، وأيضاً فُرضت عقوبات اقتصادية على السودان، حينما استضاف أسامة بن لادن من 1991 إلى 1996، وما زالت تلك الأحكام والعقوبات مفروضة على البلد.
حيثيات تاريخية
في حيثيات انقلاب 1989 أن البشير أُتي به، لإذاعة خبر الانقلاب، واتُفِق معه على أن يحكم هو، ويذهب حسن الترابي إلى السجن، تفادياً للربط بين الانقلاب والجبهة الإسلامية القومية. كان الانقلاب من تدبير حسن الترابي، وجبهته، وللخلاص من النظام الديموقراطي السابق، واستلام نظام الحكم بشكل كامل. رافق انقلاب البشير على الترابي 1999 تأكيد البشير على الربط بين الدين والدولة، ورفض الاعتراف بحقوق الجنوب، وهذا سبَّب استمرار الحرب إلى 2005، حيث تمّ التوصل إلى اتفاقية السلام الكامل في نيفاشا، والتي نصت على الاستفتاء في
"الهدف المرحلي للثورة تشكيل حكومة مدنية ومجلس سيادي "مدني وعسكري"، ومجلس تشريعي انتقالي تكون فيه نسبة مشاركة المرأة 40%"
2011، وهو ما تمّ، وقد صوّت الجنوبيون على الانفصال فيه.
واجه هذا النظام الهشّ حركاتٍ مسلحة للانفصال وقمع القوى السياسية بشكل كبير، وحاول اللعب السياسي عبر مبادراتٍ عديدة، من أجل الانتقال الديموقراطي وآخرها 2014، ولكنها كلها فشلت، لأنها كانت لتمرير الوقت، أو لإجراء انتخاباتٍ نيابية ورئاسية تُشرع حكمه، وانتقاله من كونه انقلاباً إلى كونه نظاماً سياسياً. رداءة السياسات العامة للبشير أوصلته إلى أن يكون معزولاً، ومتأرجحاً، بين علاقات مع العراق ما قبل سقوط صدام حسن، ثم مع إيران، ثم السعودية، وأخيراً كانت هناك تقارير تشير إلى تنسيقٍ كبير مع الإسرائيليين، وكذلك أيّد الثورة السورية 2011، ثم انعطف نحو روسيا وتصالح مع النظام السوري. وكانت رحلته إلى دمشق في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2018 من أسباب الثورة عليه، وتصاعدها.
مع انفصال الجنوب، خسر السودان الشمالي أكثر من 80% من موارد النفط، حيث تتركز في القسم الجنوبي، وحينها عمّت الثورات الوطن العربي. وبخسارته تلك، ارتفعت أسعار كل المواد، وتضخّمت قيمة العملة، وأدى ذلك إلى مظاهراتٍ حاشدة، استطاع نظام البشير قمعها، وتكرّر الأمر في 2013، وأيضاً استطاع قمعها، ولكن المظاهرات تجددت منذ 2016 ولم تتوقف تقريباً. جاءت المظاهرات هذه في سياق اعتماد نظام البشير على سياسات ليبرالية جديدة، ورفع الدعم عن المواد الأساسية، ولكن شدة القمع وتفتت المعارضة وشقه صفوفها وصفوف الحركات المسلحة، ساعدته على التخلص من المظاهرات حينها.
عام الثورة ودور المرأة
في أواخر 2018، وتهرباً من الأزمة الاقتصادية أيضاً رفع أسعار الخبز والوقود، وهذا ما شكّل انهياراً كبيراً في العملة، وتسبب بمظاهرات ضخمة، بدأها تجمع المهنيين السودانيين، والذي تأسس في عام 2016، وفاجأه توسع فكرة الاعتصام إلى مظاهرات ضخمة، وهذا ما جعله يطوّر من رؤيته، ويعتمد القطيعة مع نظام البشير ويطالب برحيله.
لوحظ دور مميز وقوي للمرأة السودانية في المظاهرات، وهناك تساؤلاتٌ كبرى عن سبب ذلك. هنا تجب قراءة النظام العام الذي تبناه عمر البشير منذ 1992، وزاد في التشدّد فيه 1996، وهذا أدى هذا إلى حرمان المرأة من أغلبية حقوقها، وكانت العقوبات الشديدة، من الجلد والقيود على اللباس والسفر والحركة والحريات الشخصية، سبباً كبيراً لتلك المشاركة الكبرى في مختلف المظاهرات التي عمّت السودان، وهو ما دفع "إعلان الحرية والتغيير" ليؤكد على حقوق المرأة، ونسبة مشاركتها 40% في مؤسسات الدولة التي يزمع تشكيلها حالياً ومستقبلاً.
السودان يتوحّد
التفتيت الذي أحدثه عمر البشير في البنية الاجتماعية السودانية أوصل نظامه إلى الانهيار، إذ انقلبت عليه أغلبية الفعاليات السياسية والدينية والإثنية، بل والعسكرية، وأوقفت الحركات المسلحة كل نشاطاتها، ريثما تنتهي عملية انتقال السلطة، وهي رسالة كذلك لقيادة الثورة، بأن الحروب السابقة كان سببها نظام البشير، وأن تفكيك نظامه سيكون الأساس لتلبية مطالب الشعب السوداني في كل الأقاليم، وهذا بالضبط ما ينتظره أهالي دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، وربما جنوب السودان ذاته.
مع تطور الثورة السودانية، وبروز تجمع المهنيين؛ أهم تكتل قيادي "تنضوي فيه مختلف النقابات السودانية المستقلة عن نقابات نظام البشير"، وانضوائه ضمن تحالف الحرية والتغيير، والذي يجمع أغلبية تجمعات القوى السياسية المعارضة، "تحالف نداء السودان، والإجماع السوداني، والتحالف الاتحادي المعارض، وتجمع المهنيين، ومجموعات عديدة كثيرة، وانضواء أغلبية القوى السياسية والثقافية والنسائية الفاعلة ضمن رؤية "التحالف"، فإن السودان المفكك يتجه نحو الوحدة، وربما هذا ما سيسمح بإعادة بناء هوية السودان الوطنية، هوية تتضمن التعدد الإثني والديني، وبما يتجاوز صراعات الهوية القديم، والتي رافقت هذا البلد منذ ما قبل الاستقلال، وكانت من أسباب تدهور السودان، على الصعد كافة.
الجيش والسلطة
شكّل عمر البشير الجيش، ولا سيما قيادته، وفقاً لرؤيته، وقد فَسُدَت بفساده ونهبه السودان. ومن هنا، لا يمكن لقيادة الجيش هذه أن تصون البلاد، وأن تتخلّى بسلاسة عن الحكم الذي آل إليها. بدا ذلك من خلال المماطلة في لقاءات لجنة التفاوض في "إعلان التغيير والحرية"، وفي لقاءات أجراها مع قوى سياسية وشخصيات كانت متحالفة مع عمر البشير، وكذلك في المشاورات المستمرة، والتي بدأت قبل عزل البشير، بين قيادات من جيشه ومسؤولين من السعودية والإمارات، والتي انتهت بدعمٍ مالي ونفطي محدودٍ. الإشارة هنا إلى السعودية والإمارات، لأن البشير أرسل قوات من الجيش للمحاربة مع هذه الدول في اليمن. إذاً هي رشوة للإبقاء على الجنود هناك، وهي محاولة لقطع الطريق على استكمال الثورة، وتوريط قيادة الجيش في قمعها، وهذا ينسجم مع دور هذين البلدين في دعم الثورات المضادة في الدول العربية، ومنذ دعمها الجنرال عبد الفتاح السيسي، والآن المشير خليفة حفتر في ليبيا، وكان الأمر سيشمل سورية، لولا التدخل الأميركي، وإنذار هذه الدول أن الوضع في سورية أصبح دولياً بين أميركا وروسيا في سورية، ويجب ألا تتورّط فيه. قيادة الجيش تمرّر الوقت، من أجل إنهاك المعتصمين والقوى السياسية، ورغبة منها في إعادة إنتاج النظام القديم، و"تطعيمه" بقوى سياسية وشخصيات، يحاولون شراءها من قوى "إعلان التغيير والحرية" وسواها. في هذا يصبح من حق قوى الإعلان، وإغلاقاً لكل السيناريوهات الكارثية عليه، وعلى السودان، إعلان السلطات المؤقتة الثلاث، مجلس رئاسي وحكومة مدنية ومجلس تشريعي، وتمكين السلطات القضائية، وهذا ما سيدفع قيادة الجيش إلى الإذعان للثورة، والبحث عن مساوماتٍ مع الثورة؛ وفي حال تعذّر ذلك، سيكون الجيش ذاته معرّضاً للانقسام، وربما الانقلاب من الضباط الأقل رتباً. السودان بحالته الراهنة، لا يمكنه الاستمرار، وكذلك ليس في الوسع أن يحكمه العسكر، والتحالفات الإقليمية لم تعد تجدي نفعاً، وفي هذا هناك مطلب شعبي يتعاظم، بضرورة إعادة الجنود من اليمن.
للسودان تاريخ من الانتفاضات واستلام الحكم للمدنيين، وكذلك هناك تاريخ للانقلابات العسكرية. وإذا كان صحيحاً أن درس التاريخ يساعد في تلمس الطريق نحو المستقبل، وقد يجنّب تكرار الحدث القديم، ولكن قياساً كهذا ليس صحيحاً، فشروط السودان الحالية تشبه شروط بقية البلدان العربية التي دخلت بسيرورة ثورة منذ نهاية 2010، ولم تتوقف حتى لحظته. وعلى الرغم من محاولات الثورات المضادة وداعميها إيقاف الثورات، وتخميد المجتمعات. وعلى الرغم من محاولات الدول العظمى جعل سورية نموذجاً دموياً وحرباً أهلية، وأن وضع سورية مصير كل ثورة جديدة، فإن للثورات شروطها الواقعية، وتنطلق من اعتباراتٍ تتجاوز عقلية المؤامرة ومصالح الدول.
شرارات الثورات العربية، وعلى الرغم من تشابه أسبابها، مختلفة، أما مطالبها فمتشابهة، وهي ترفض كل تنازل عن الديموقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية. عدم تحقق ذلك كله هو بعينه ما يجدّد الثورات والانتفاضات والتظاهرات، وهذا يشمل كل الدول العربية، والاستثناءات ليست بالأهمية التي يعتدّ فيها. شروط السودان والجزائر متشابهة، وقد خرجت مظاهرات فيها ومنذ 2011، ولكنها توقفت لأسبابٍ متعددة، وكان للقمع دور مركزي، ولكن هناك أسباباً أخرى، وقد تجدّدت فيها إلى أن وصلنا إلى شرارات قوية (رفع الدعم في السودان، والعهدة الخامسة لبوتفليقة في الجزائر). والمراد قوله هنا إن كل ألاعيب الجيش في السودان، والدعم الخارجي له، ومحاولات الأحزاب القديمة لاستعادة النظام، لن تستطيع إيقاف التغيير؛ فهناك درس الثورات العربية الجديدة، وليس التاريخ فقط، وهناك النظام الغارق في الأزمات، وهو في وضعٍ يمنع قيادة الجيش من إيقاف الثورة واستلامه الحكم مدة طويلة.
الثورة انتصرت ومشكلات تتطلّب الحل
لن تتراجع ثورة السودان أبداً، ولن تتخلى عن الاعتصام المفتوح، ولن يسمح صغار ضباط الجيش لقيادته في الاستمرار بالمماطلة، وأيضاً لن تساهم المساعدة الإقليمية في ذلك، وفي الوقت عينه، ليس من مصلحة أوروبا وأميركا إنقاذ نظام فاشل على المستويات كافة، وهناك رفض الاتحاد الأفريقي استلام الجيش الحكم، وتمديده للمجلس العسكري ثلاثة أشهر، لا يغير من ذلك الرفض. القضية التي تؤرق الشعب السوداني هي كيفية بناء نظام ديموقراطي قوي، لا سيما أن التجارب العربية والسودانية هشّة وقابلة للانتكاس؟ السلطات الانتقالية المزمع تشكيلها ربما تلبّي الحاجة السياسية للانتقال الديموقراطي، وبما تتيح تمثيل كل القوى السياسية والإثنية والأقاليم والنساء، وكذلك بما يتيح إقامة علاقات سياسية جديدة مع جنوب السودان، الغارق في التأزم والحروب. وربما يشكّل الانتقال الديمقراطي في الشمال سبباً لاستقرار الحكم في الجنوب. وما يؤرّقه أيضاً طبيعة المشروع الاقتصادي القادر على الانتقال بالسودان نحو استثمار ثرواته، وتصدير نفط الجنوب عبر موانئه، والتخلص من كل أشكال الفساد والنهب، والتي كانت السبب المركزي في إخفاق التنمية، وتأجير أراضٍ كثيرة لدولة خارجية. في هذه النقطة، هناك إخفاق كبير للدول التي لم تثُرْ شعوبها، والتي ثارت كذلك. يتعلق هذا الإخفاق بالاستمرار في اعتماد السياسات الليبرالية الجديدة، والانفتاح والتحرير الاقتصادي العشوائي، وتهميش دور الدولة في القطاعات الإنتاجية الأساسية. ويفترض التحول الديموقراطي بالضرورة نظاماً سياسياً ديمقراطياً، وتعليماً حداثياً، واقتصاداً صناعياً، ورفض كل أشكال التبعية والاتفاقيات القائمة وفقاً لسياسات العولمة. وفي هذا لا يمكن إغلاق منافذ الاقتصاد، ولكن لا يمكن فتحها من دون رؤية تتيح دخول رؤوس الأموال والبضائع، وبما ينسجم مع النهوض بالاقتصاد الوطني، وتأمين حاجات أغلبية الشعب والتصنيع بالتحديد.
ثورات مستمرة
تكثر المؤشرات على أن الثورات التي انطلقت في 2011، واتخذت طابعاً سياسياً مكثفاً، أي مسألة الانتقال الديموقراطي، لم تعد وحدها القضية الأساس، وصارت التظاهرات والاحتجاجات تتخذ طابعاً طبقياً واضحاً، فإذا كانت الثورة السودانية واضحةً في ذلك، فإنها لم تتقدم ببرنامج اقتصادي لما بعد الثورة، أي لمرحلة بناء مؤسسات الدولة. طبعاً القضية معقدة للغاية، إذ إن الثورات شعبية، وليست خاصةً بشريحة مجتمعية، أو تمّت عبر انقلاب عسكري، أو بقيادة حزب سياسي أو تحالف سياسي معين. شعبيتها تلك تعني أن هناك انهياراً كاملاً في الاقتصاد والمجتمع، بل والسلطة السياسية، وبالتالي ما هو شكل الاقتصاد المناسب للنهوض في السودان وبقية الدول العربية؟ يتأتى التعقيد من غياب المشروع الاشتراكي العالمي، ومن الفشل الكبير للسياسات الليبرالية الجديدة والعولمة. السؤال مجدّداً: ما هي السياسات الاقتصادية القادرة على النهوض بالمجتمع، ليس في السودان، بل وفي تونس والمغرب والأردن وسورية والجزائر، وغيرها.
قضية تسليم السلطة للمدنيين مما لا تستوي الأمور بدونها. ما ينتظره السودانيون بحق هو الانتقال إلى النظام الديمقراطي، وبعيداً عن روح الانتقام والثأر، وعبر محاكمة كل رموز الفساد، وفصل الدين عن الدولة، وأن تتمثل الهوية الإثنية لمختلف أعراق هذا البلد في الدستور والقوانين، وإقامة أفضل العلاقات مع الجنوب، وكذلك رؤية موضوعية لكيفية تطوير الاقتصاد وتطبيق العدالة الاجتماعية، فهل يتمكّن السودان من تجاوز أزماته الداخلية وإعادة الجيش إلى البلاد، وتحييد الجيش والدين عن الحكم، وإقامة علاقات متكافئة مع كل الدول. ليست هذه أحلاماً، وهي أهداف الثورات العربية كافة. ألا يختط السودان للدول العربية نموذجاً وطنياً نهضوياً على المستويات كافة؟ ربما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.