النكتة الشائعة، والواقعية، تقول إن «الموظف» الكبير جداً، نادى موظفاً صغيراً جداً، وأعطاه جنيهاً واحداً، وأمرهُ أن يذهب فيأتيهم بإفطار لعشرة موظفين «كبار جداً» وفاكهةً وشاي وقهوة، وأن يأتي بالباقي.. - الموظف الصغير جداً كان حديث التعيين، لذلك نظر إلى رئيسه في دهشة وتساءل: ده جنيه يا سعادتك!! - نظر إليه الموظف الكبير جداً، بإشفاق، قائلاً: عارفو جنيه يا أخي، إتصرَّف!!.. فتساءل المسكين محتاراً: اتصرف كيف يعني؟؟.. فضاق رئيسه ذرعاً بسذاجته، وأخذ منه الجنيه، ثم نادى موظفاً صغيراً آخر، خبيراً ويحسن التصرف، فأعطاه ذات الجنيه وطلب منه ذات المطلوبات، والباقي.. فحياه ذاك وأخذ الجنيه ومضى، تاركاً الموظف الصغير الآخر فاغراً فاه، منتظراً أن يرى المعجزة.. فما هي إلا هنيهةً حتى أقبل ذاك، حاملاً كمية ضخمة من الطعام والفاكهة والمشروبات والشاي والقهوة، وضعها، ثم أعطى رئيسهُ خمسة جنيهات قائلاً: الباقي سعادتك!! - ولا أشك أبداً، في أن خطاب الأخت المعلمة «مناهل»، الذي نشرناهُ في هذه المساحة، ضمن «أصداء وتعقيبات» الجمعة، هُو مما يؤكد أن وزارة التعليم أيضاً تريدُ من موظفيها، وخصوصاً المعلمين، أن «يتصرفوا».. فما تضمنهُ خطاب الأخت مناهل من ظُلمٍ بيِّنٍ واقعٍ على المعلم «تأكدتُ من دقة ما ذكرته الأخت مناهل، المعلمة بمحلية غرب الجزيرة، بسؤالي عدداً كبيراً من المعلمين في ولاية الخرطوم وفي ولايات أخرى، فالحالُ هُو ذاته أينما توجهت» يدُلُّ على أن الأمر «سياسة» متبعة، ويدُلُّ أيضاً على أن المطلوب من المعلِّم هُو أن «يتصرَّف» بدوره.. وبعض المعلمين هُم مثل الموظف الصغير الأول في النكتة أعلاه، لا يحسنون التصرُّف ويتساءلُون في دهشة: نتصرَّف كييييييف؟؟، بينما هناك معلمون آخرون، قليلون، هُم مثل الآخر الذي جاء بالإفطار وبالباقي، يتصرَّفُون دون شكوى، فيُركِّزون في عملهم على إعطاء «الدروس الخاصة» لطلابهم خارج اليوم الدراسي، ويكتفون أثناء اليوم الدراسي بالمراجعة والتثاؤب.. ولكن سياسة «التصرُّف» لم تقتصر على التعليم وحده.. - الدولة عندما اعتمدت سياسة خصخصة التعليم وخصخصة الصحة، كانت في الواقع تُريدُ أن تخفف على نفسها أعباء «مجانية التعليم» و«مجانية العلاج» بالتحايل على الواقع، فالخطابُ المُعلن وراء الخصخصة في المجالين الحيويين، كان هُو: أن هناك أناساً قادرين على دفع تكاليف تعليم أبنائهم مهما بلغت تلك التكاليف، وأن هناك أيضاً مقتدرين، يمكن أن يدفعوا لعلاج مرضاهم كُل ما يُطلب منهم، بما في ذلك خدمات العلاج «الفندقية» التي تتيحها بعض المستشفيات الخاصة، وأن الخصخصة في هذين المجالين تلبي حاجات القادرين دون أن تمس حقوق الفقراء في المدارس الحكومية المجانية، والمستشفيات الحكومية المجانية!!.. ونسيت الدولة، أو تناست، أن المدارس الخاصة، ما دامت استثماراً يخضع لآليات وشروط «السوق»، سوف تعمل على تجفيف المدارس الحكومية من المعلمين الأكفاء، فتتردى الخدمةُ فيها، ما يجعل الفقراء بين أحد خيارين، أن يخرج أبناؤهم من المدارس الحكومية رأساً إلى «الشارع»، أو أن «يتصرَّفُوا» فيلحقوا أبناءهم بالمدارس الخاصة المزدهرة، والأمر ذاته في الصحة، إذ لن ترضى المستشفيات الخاصة إلا بأكفأ الأطباء، الذين سوف يتركون المستشفيات الحكومية غير آسفين، لأطباء الامتياز، أو يقسمون وقتهم إن تكرموا بالعمل في المستشفيات الحكومية، بحيث يكون وقت العمل في المستشفيات الخاصة، و«وقت الراحة» في المستشفيات الحكومية.. فيجد الفقراء أنهم لو تركُوا مرضاهم في المستشفيات الحكومية فكأنما تركوهم في «قارعة الطريق» فيُعانُون تأنيب الضمير، و«يتصرفون» بكل ما تطيقه ظروفهم وما لا تطيقه، لينقلوا مرضاهم إلى حيث العناية الحقيقية والعلاج الحقيقي، في المستشفيات الخاصة!!!.. - ولهذا السبب، ربما كان بكاءُ أخينا الأستاذ أحمد المصطفى إبراهيم، حول الواقعة التي حكاها في استفهاماته قبل أيام، فتلك الصيدلية «الخاصة» والتي ربما كانت تتبع مستشفى خاصاً، لم تستحِ أن تبيع العلاج لطفل مصاب بالسرطان، بخمسة وسبعين ضعف ثمنه الحقيقي، وبالطبع لن يتوفر ذلك العلاج الذي لا يقل خطراً عن الأدوية المنقذة للحياة، لن يتوفر في المستشفيات الحكومية لأن الحكومة لم تسمح بقيام المستشفيات الخاصة «عبثاً».. بل إن الدولة جاءت ببعض المستثمرين في المستشفيات وفي المدارس، ليتولُّوا حقائب وزارية أو وظائف قيادية في مجالي الصحة والتعليم!! وقطعاً سوف يسوق هؤلاء سياسات الصحة وسياسات التعليم لكي تخدم استثماراتهم، أقسم بالله العظيم لن يفعلوا إلا ذلك!!.. - ولهذا السبب أيضاً، كانت عبرات شيخ إسحق وهو يئنُّ سارداً حكاية الطبيب الذي يأتي فرحاً حاملاً دواءً جديداً يمثل حلاً لمشكلات كثير من المرضى، إلى زميل له يملك مستشفى خاصَّاً «وربما كان هذا الأخير مسؤولاً كبيراً بالدولة، من يدري؟؟» فيأمُرهُ ذاك بأن ينسى هذا الدواء الجديد ولا يذكره لأحد، لأن انتشاره سوف «يخرب بيوتهم» !!.. - إنهم يفعلون ذلك دون وجل أو حياء، لأن الدولة تقول لهم: «اتصرَّفُوا»!!