أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي، تنطبق هذه المقولة على الخطوة التي قام بها البرلمان مؤخراً بتشكيل لجنة طارئة لدراسة مدى الحاجة لإصدار تشريع خاص بمكافحة التجسس. ولا نريد أن نستبق قرار اللجنة الذي نرجو ونأمل ألا يصدر إلا بعد قتل الموضوع بحثاً ودراسة، ولكن لا نرجم بالغيب إن نحن قلنا إن اللجنة في نهاية المطاف سوف توصي بضرورة وأهمية إصدار تشريع خاص بهذه المسألة، لأن العضوية النوعية في اللجنة هي للأجهزة الأمنية وهي جهات أكثر معرفة بالتجسس ومضاره وهم الذين يطؤون بصبر جمرة مكافحة هذه الآفة. وأضم صوتي إلى صوت المنادين بسن تشريع خاص بمكافحة التجسس لأن ما يعاني منه السودان الآن هو نتاج لعمليات تجسس تمت ممارستها تحت سواتر وأغطية عديدة وتحت ذرائع ومسميات مختلفة، وكانت قضية دارفور ومن قبلها قضية الجنوب أكثر الذرائع التي تم استخدامها من قبل بعض القوى الدولية والإقليمية للتجسس على السودان، وتحاول ذات القوى الآن ممارسة التجسس من بوابات أخرى جديدة لعل أهمها بوابتا النيل الأزرق وجنوب كردفان، حيث تتصاعد مطالبات هذه القوى حالياً للحكومة بالسماح لمنظماتها «الإنسانية» بالدخول لهذين الإقليمين لتقديم المساعدات وما أدراك ما هذه المنظمات!!. ونسبة لارتباط التجسس والجاسوسية بعالم المخابرات الذي يتسم بالغموض والسرية فإن الغالبية العظمى من الناس لا يعرفون ماهية التجسس وما هو الجاسوس وما النشاط الذي يقوم به والصورة النمطية الوحيدة المرتسمة في أذهان كثير من الناس هي تلك الصورة للجاسوس التي تعرضها الأفلام البوليسية وهي صورة بعيدة إلى حد كبير عن صورة الجاسوس الحقيقي على أرض الواقع حيث أن ضرورات الحبكة والإثارة تدفع مخرجي هذه الأفلام إلى تصوير الجواسيس في تلك الصورة النمطية التي تتسم بالحركة Action والمطاردات المثيرة وتبادل إطلاق النار وغيرها من حركات الإثارة، أما الجاسوس الحقيقي فهو شخص هادئ وحذر لا يميل إلى الظهور بمظهر يميزه ويجعله محط أنظار ومراقبة الآخرين وهو شخص يحرص دائماً على أن يبدو مسالماً ولا يثير الشكوك حوله بتصرفات غريبة. ونود هنا أن نسلِّط بعض الإضاءات على هذا الجانب المهم بغرض التثقيف لمن ليس لهم أية معرفة بهذا العالم خاصة فئة الشباب وهي الفئة الأكثر استهدافاً بالتجنيد ليكونوا جواسيس وعملاء. ونقول إن الجاسوسية ليست جديدة فهي قديمة قدم التاريخ فقد عرفها الإنسان القديم وطبقها وتعامل معها بنفس المفهوم الحديث، والفرق بين الجاسوسية قديماً والجاسوسية في الوقت الراهن يكمن في أن الأخيرة شهدت تنظيماً محكماً في وسائلها فقامت بإنشاء منظمات لها واستخدمت التقنيات الحديثة في ممارسة عملها. والجاسوسية يمكن تعريفها تعريفاً موجزاً بأنها أحد أنشطة المخابرات الشاملة التي تهدف إلى التفتيش السري وجمع المعلومات عن مجهودات وأنشطة الدول الأخرى للتحقق من قوتها وقدرتها في المجالات المختلفة العسكرية والأمنية والاقتصادية والعلمية. والجاسوس «التقليدي» هو رجل أجنبي يعمل في دولة أجنبية بالنسبة له حيث يقوم جهاز المخابرات الذي يستخدمه بتجنيده واستخدامه بعد تلقيه عمليات طويلة أو قصيرة من المران والتدريب حسب المهمة التي سيكلف بها ومن ثم تأمين غطاء له أو ساتر للتمويه ثم يدفع به إلى الدولة الهدف، والجاسوس في نظر مستخدميه إذا كان ينتمي إلى جنسيتهم يعتبر بطلاً «رأفت الهجان مثالاً» ، وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا النوع من الجواسيس مكلف مادياً وعرضة للاكتشاف سريعاً خاصة إذا كانت سماته الخِلْقية أو الثقافية مختلفة عن سمات مواطني الدولة الهدف. لذلك تلجأ أجهزة المخابرات وتفضل استخدام مواطني الدولة الهدف للقيام بنفس المهام المراد القيام بها عن طريق الجاسوس الذي ينتمي إلى جنسيتها أو لجنسية أخرى غير جنسية الدولة الهدف، وذلك نظير أجر ويسمى هذا الجاسوس بالعميل، ولفظة عميل أو agent في أجهزة المخابرات الأمريكية تطلق على الفرد من منسوبيها المشتغلين بها، بينما في بلاد أخرى منها السودان تطلق على المواطن الذي يعمل لحساب مخابرات دولة أجنبية وهو في نفس الوقت يدخل تحت تصنيف الجاسوس لأنه يقوم بأعمال تجسس. والعميل يتم إغراؤه بالمال عند تجنيده، ولكن مع مرور الوقت وتقديم خدماته الموثقة تتقلص المبالغ المدفوعة له حتى تصبح مجرد فتات ليحل محلها التهديد بكشف أمره وفضحه، وقد يصل الأمر في نهاية المطاف عندما تصبح معلوماته التي يقدمها شحيحة أو لأي سبب آخر يراه جهاز المخابرات الذي يقف وراءه يتم الاستغناء عنه وفي هذه الحالة غالباً لا يتم تكريمه أو إعطاؤه خطاب شكر بنهاية الخدمة، بل يتم «حرقه» بمعنى كشفه والتشهير به أو بيعه ضمن صفقة، والتفسير المنطقي والفطري لهذا السلوك هو أن العميل ورغم خدماته «الجليلة» التي يقدمها لمستخدميه إلا أنه في نظرهم وعقلهم الباطن يعتبر رجلاً خائناً خان وطنه وباعه بثمن بخس وهي جريمة يعاقب عليها القانون وتنم عن نفس منحطة وحقيرة غير جديرة بالاحترام وفي التاريخ أمثلة عديدة لذلك.. والحق يقال فإن العميل الذي يعمل لحساب دولة أخرى ضد بلده هو شخص باع دينه وضميره وبلده للأعداء وهو شخص يتصف بالدناءة والرذالة استمرأ الذل والمهانة والهوان وباع كرامته. وهو ما يجعله يستحق أشدّ العقوبات وأقساها في حالة اكتشافه وثبوت الجرم عليه بالوثائق أو بالقبض عليه متلبساً Read handed والعمالة منهي عنها في الإسلام فهي خيانة للوطن وللدين وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الخيانة في كثير من الآيات فقال« يا أيُّها الذين آمنوا لا تخونوا اللهَ والرسولَ وتخونوا أماناتِكم وأنتم تعلمون» الأنفال «27». ولكن كيف يتم تجنيد العملاء والجواسيس وبأي الوسائل والطرق وما هي الأنشطة التي يقومون بها؟ وهل هناك أشخاص بعينهم أكثر عرضة وقابلية للوقوع في حبائل العمالة؟ وكيف يمكن تفادي الوقوع في الشراك والفخاخ التي ينصبها مصطادو العملاء؟.. إلخ. «نواصل»