بيّنّا في المقال السابق كيفية تجنيد العملاء والجواسيس وأهم العوامل التي تساعد علي عملية التجنيد، وسلطنا الضوء على الأنشطة التي يقومون بها وأوردنا أمثلة ونماذج لهذه الأنشطة. ويتناول مقال اليوم الصور والأشكال التي غالباً ما يتخفى خلفها العملاء والجواسيس ويتخذونها سواتر وأغطية لممارسة أعمال التجسس نسبة لطبيعتها المساعدة على ممارسة الأنشطة التجسسية، والإجابة عن السؤال الذي طرحناه في المقال الأول والذي يقول: هل هناك أشخاص بعينهم هم أكثر عرضة وقابلية للوقوع في حبائل العمالة؟ وكيف يمكن تفادي الوقوع في فخ مصطادي العملاء؟ وإذا حدث الوقوع كيف يمكن الخروج من الفخ؟. وأود قبل أن أتناول تلك النقاط بالتعليق على ما جاء على لسان السيد رئيس لجنة العدل بالبرلمان ورئيس اللجنة المكلفة بدراسة مدى الحاجة لسن تشريع خاص بمكافحة التجسس الفاضل حاج سليمان والذي ورد في التقرير الذي نشرته هذه الصحيفة في عددها ليوم أمس بعنوان «قانون مكافحة التجسس محاولات منع بيع وطن»، فقد قال رئيس اللجنة «إنهم في المرحلة الأولى لتحديد هل البلاد تحتاج لقانون منفرد أم لا وهل التجسس بالبلاد بالحجم الذي يستحق سن قانون؟ وأن اللجنة طالبت الأجهزة الأمنية بمدها بقوائم بحجم جرائم التجسس بالبلاد وعددها!». وتعليقاً على كلام رئيس اللجنة بالتساؤل حول «حجم» التجسس بالبلاد «ليستحق» سن قانون خاص به، نقول إن اشتراط توفر حجم محدد لجرائم التجسس لا ينبغي أن يكون أساساً ومعياراً لسن قانون ولا أرى هذا التفكير إلا أنه جزء من ثقافتنا السودانية المعوجة المتمثلة في معالجة الأمور بعد أن تستفحل وتصبح عصية على الحل فنحن لا نعرف مثلاً ثقافة المراجعة الطبية الدورية ونحن أصحاء ولا ننقل مريضنا إلى الطبيب إلا بعد أن «يستوي» ويتمكن منه المرض ويستفحل في جسده ويصبح Hopeless ، نحن قوم يفاجئنا ويداهمنا رمضان والحج والعيدان والخريف والعام الدراسي في كل عام، بل نحن قوم قد فاجأنا انفصال الجنوب ولا تعرف ثقافتنا قط التحسب للمستقبل والاستعداد للأزمات واستباقها بوضع الحلول لها ولا نعرف التخطيط للمدى الطويل وإنما نبدأ في البحث عن المخارج بعد وقوع الفأس في الرأس وبعد أن ترتطم رؤوسنا بالحيطة، نحن ننتظر حتى تقع الكارثة ثم نهرع ونتنادى مولولين للبحث عن معالجات والأمثلة على ذلك كثيرة، فمؤتمر قضايا التعليم لم يُعقد إلا بعد أن «استوى» حال التعليم بالبلاد وتدهور إلى الحد المعروف للكافة، والوجود الأجنبي غير الشرعي لم يناقش ولم يتم تناوله إلا بعد أن أصبح أزمة هددت الأمن الاجتماعي للبلد والذي هو جزء من الأمن القومي لها، وقضية خروج نفط الجنوب لم نتحسب لها، وآليات مكافحة الفساد لم تنشأ إلا بعد أن طفحت «مجاريه» وفاحت روائحها.. فيا سيدي الفاضل رئيس لجنة العدل بالبرلمان قضية التجسس تتعلق بشكل مباشر بالأمن القومي للبلد والذي هو أعلى قيمة يجب على كل مؤسسات الدولة الرسمية وغير الرسمية العمل على صونه والحفاظ عليه ضد انتهاكات واختراقات الأعداء وأن هذا الصون وهذا الحفاظ لا بد أن يكون ذا طبيعة وقائية Precautionary فلا ينبغي أن نقعد وننتظر حتى يبلغ التجسس «حجماً» محدداً ثم نقول نعم هذا الحجم «يستحق» أن يسن له تشريع، بل يجب علينا أن نسن قانون لمكافحته حتى وإن لم تكن هناك ولا حالة واحدة للتجسس، لأن للقوانين جانبًا وأثرًا رادعًا Deterrent فالنتيجة الأمثل التي ينتجها وجود قانون ما هو ألا يتم تطبيق هذا القانون بسبب ارتداع الناس منه وبالتالي عدم ارتكاب الفعل الذي يجرمه خشية الوقوع تحت طائلته. وفي تقديري الخاص أن عدم وجود قانون خاص بالتجسس بالبلاد حتى الآن ربما كان هوالسبب الرئيس في تعدد وكثرة الحالات المضبوطة لأن الشخص أو الجهة الممارسة للتجسس أول ما تفكر فيه هو ما هي العقوبة المترتبة على التجسس فيما لوتم كشفه من قبل سلطات الدولة، فإذا كانت هذه العقوبة مشددة فإنها قد تحجم عن عملها أو يمثل ذلك بالنسبة لها عائقاً كبيراً جداً، والعكس صحيح، فإذا لم يكن هناك قانون ينص على عقوبة مشددة فإن ذلك يحفز الجهات المتجسسة ويجعلها تسرح وتمرح في عملها وتستبيح سيادة البلاد وأمنها طولاً وعرضاً فما بالك إذا لم يكن هناك قانون أصلاً.!. وأعود بعد ذلك الاستطراد الضروري للحديث حول الصور والأشكال والمؤسسات التي غالباً ما يتخفى خلفها الجواسيس ويتخذونها سواتر وأغطية لممارسة التجسس، وهنا نشير إلى أنه ليس حتماً وبالضرورة أن تكون هذه المؤسسات كلها تمارس نشاطاً تجسسياً، فرغم أن بعضها يتم إنشاؤه خصيصاً لهذا الغرض، إلا أن بعضها قد يكون ضحية لاختراق من جهة ما دون معرفتها، فالمنظمات الدولية والإقليمية الحكومية وغير الحكومية العاملة في المجالات الإنسانية وغير الإنسانية هي يمكن أن تكون سواتر لممارسة التجسس وللسودان تجارب عديدة موثقة مع هذا النوع من أنواع السواتر خاصة منذ بدء أزمة دارفور، وهناك المراكز التجارية والثقافية الأجنبية، ومعاهد تعليم اللغات الأجنبية، والمؤسسات التعليمية الأجنبية، ومكاتب خطوط النقل البري والبحري والنهري والجوي الأجنبية، وكالات السفر والسياحة الأجنبية والوطنية، ووكالات استقدام وتشغيل العمالة الأجنبية، الفنادق والمطاعم والمقاهي والكازينوهات الكبرى، الأندية الاجتماعية العالمية، الصفحات الاجتماعية في الإنترنت، إستديوهات التصوير الفوتوغرافي، ومحلات الكوافير، وصالونات الحلاقة، ومكاتب مراسلي وسائل الإعلام الأجنبية، والصحفيين الأجانب القادمين لتغطية أزمات وأحداث معينة، فروع بيوت المال العالمية، لجان المشتريات ومناديب المبيعات الأجانب، مؤسسات البناء والأعمال والشركات الصناعية والزراعية الأجنبية.. كل أولئك يمكن أن تتخفى خلفها وتحت مظلتها أنشطة تجسس قد يتم اكتشافها أولا تكتشف أبداً.. «نواصل».