إذا كنا قد كتبنا بالأمس عن تظاهرات مسرّحي الجيش من الجنوبيين «الأجانب» الذين أخرجوا مكنون صدورهم حين لم يكتفوا بإغلاق أهم شوارع الخرطوم في أشد ساعات النهار اكتظاظاً بالحركة وإنما صبّوا جام غضبهم وأحقادهم الدفينة على أبناء الشمال فهشّموا السيارات واعتدَوا بالضرب على المواطنين الشماليين «المدنيين» الذين لا ناقة لهم ولا جمل في القضية التي خرج من أجلها أولئك المعتدون... إذا كنا قد كتبنا عن ذلك مقارنين ما حدث مؤخراً بما حدث في يوم الإثنين الأسود وغيره من أحداث بما في ذلك عراك الكلاشنكوف الذي حدث بين الجنوبيين أنفسهم قبل نحو شهر في قلب الخرطوم فإننا ينبغي ألا ننسى في أية لحظة أو نغفل عن تذكُّر أن ذلك سلوك مركوز ومشاعر دفينة في نفوس أبناء الجنوب ظلت تعبِّر عن نفسها بأشكال مختلفة طوال المسيرة السياسية للسودان الحديث منذ ما قبل الاستقلال من لدن توريت «1955م» حتى اليوم ولا ينبغي بحال أن نظنّ أنّ الانفصال الذي أخرج الجنوب «سياسياً» من حياتنا سيكون نهاية المطاف للأزمة المتطاولة الأمر الذي ظللنا «نكورك» ونصرخ أن العلاج يحتاج إلى بصر حديد وفكر رشيد وإرادة قوية لإنهاء حالة التوتر بين الدولتين بما يؤمِّن بلادنا من تداعيات الانفصال ليس فقط في الجانب الاقتصادي الذي يشغل كل وقت الحكومة ومفاوضيها المنشغلين بالنافلة عن الفريضة المتمثلة في الأخطار الأمنية التي تعتبر تظاهرة الجنوبيين في قلب الخرطوم إحدى تجلياتها خاصة وأن الصراع الاثني بين المجموعات الجنوبية مؤخراً داخل الخرطوم والذي استُخدم فيه السلاح الناري أثبت ما كان معلوماً لدينا أن العاصمة تمتلئ بالسلاح المخبّأ من قِبَل الحاقدين من المتربصين والمتمردين من أصحاب الأجندة والمشاريع العنصرية مثل مشروع السودان الجديد الذي كانت الحركة الشعبية تعمل على إنفاذه خلال الفترة الانتقالية وكان متمردو دارفور يعملون كذلك بذات المستوى على إنفاذ مشاريعهم التي زاد من خطرها ضلوع بعض القوى السياسية المعارضة في مساندتها بل وتقديم المشروعية الفكرية لها. لا يقتصر الأمر على المؤتمر الشعبي وإنما يتجاوزه إلى قوى الإجماع التي بلغ من تحدّيها أن يصرِّح الرويبضة أبو عيسى بأنهم بصدد جمع المعارضة السياسية والمسلحة التي يعني بها الجبهة الثورية من مجموعة كاودا وغيرها في تحدٍ سافر للقانون وتطاول عجيب على سلطان الدولة. في هذا الوقت الذي يحاول فيه بعض منسوبي الحركة الشعبية الحصول على الشرعية من خلال مجلس شؤون الأحزاب تجد بعض العابثين يتحدثون عن فتح الحدود بين الشمال والجنوب مثلما رأينا من لجنة الشؤون المالية والاقتصادية بالبرلمان والتي ورد في خبر صدر في مانشيت صحيفة «سيتزن» أنها اتفقت مع وزارة التجارة على فتح «سوق حُرة» في كوستي لضمان تدفق السلع لدولة جنوب السودان مع العمل على إقامة علاقات ودية مع الدولة الجديدة!! هؤلاء يتحدثون عن علاقات متينة وودية ولا يتابعون ما يصرِّح به باقان الذي لا يزال يتقيأ سماً زعافاً من الحقد الأعمى ولم يسمعوا تصريحه عشية خروجه من بلادنا حين قال «ارتحنا من وسخ الخرطوم»!! أما وزارة التربية فإنها أعلنت عن أنها ستُتيح للجنوبيين الجلوس لامتحان الشهادة الثانوية «الشمالية» لمدة ثلاث سنوات بينما طلاب الشمال الذي درسوا في الجامعات الجنوبية يُحرمون من التخرج بشهادات تلك الجامعات!! أكرر السؤال متى نفيق من سكرتنا ونسلِّم أنه لا بد مما ليس منه بد وأن علينا إن أردنا أن نؤمِّن بلادنا من الرياح السامة القادمة من تلقاء الجنوب الذي لم يتخلَّ عن مشروعه العدواني أن نُنهي حالة الاستكانة التي مَرْدنا عليها من خلال تحطيم بيت الزجاج الذي تعيش فيه الحركة الشعبية ثم من خلال تطهير بلادنا من الوجود الجنوبي بحيث يتم التعامل بعد ذلك مع أبناء الجنوب على أساس فردي من خلال إدارة الجنسية في وزارة الداخلية والتي ينبغي أن تُزوَّد بكل معينات الفحص والتدقيق التي تمنع الاختراق. بقي لي أن أتحدث عن مشكلة الرعاة في جنوب كردفان الذين اعتادوا على رحلة الشتاء والصيف بين الشمال والجنوب قبل الانفصال وأقول إن على الحكومة أن تحل هذه المشكلة بصورة جذرية فلا أمان لأبناء المسيرية في جنوب السودان الذي لن يسمح للرعاة بدخول الجنوب بأسلحتهم الأمر الذي يجعلهم وأنعامهم عرضة للقتل والنهب وإذا كانت المعارك تحتدم بين القبائل الجنوبية مثلما حدث مؤخراً بين المورلي وكلٍّ من النوير والدينكا حيث قُتل الآلاف ونُهبت أبقارهم فإن الجنوب بات محرماً أكثر على المسيرية الأمر الذي يستدعي بديل المزارع المجهّزة (ranchs) ولقد سعدتُ كثيراً حين قرأتُ خبرًا منسوباً لنائب الرئيس الحاج آدم قال فيه إن دولة الكويت وافقت على قرض يبلغ «130» مليون دولار لتأمين الشريط الحدودي من أم دافوق حتى الحدود الإثيوبية بما في ذلك قيام مشاريع لاستقرار الرحل تشمل حفر آبار وإقامة مراعٍ بغرض استقرار الرعاة والرحل ومنع الاحتكاكات بين الرعاة في الدولتين.