الجولة التي يقوم بها وزير الخارجية علي كرتي حالياً إلى كل من ماليزيا وأندونيسيا والصين، وربما الهند تبدو على درجة عالية من الأهمية من حيث توقيتها وأبعادها الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية وظروفها الدقيقة المحيطة بها على الصعيدين الإقليمي والدولي، خاصة أن اتجاه الخرطوم شرقاً تحت وطأة الضغط الأمريكي، واشتداد العزلة الدولية ارتبط في الأذهان بأنه السلاح الوحيد الذي يمكن باستخدامه تخفيف الضغوط، والخروج من عنق الزجاجة. ولعل الخرطوم جربت ذلك أيام العزلة الدولية والمقاطعة العالمية المفروضة عليها، وهل تلك الظروف بعيدة عن الحالية. المغزى والتوقيت أولاً: من حيث التوقيت جاءت الزيارة في وقت خرجت فيه الخرطوم محبطة من المباحثات التي جرت بينها وبين مبعوث أوباما برينستون ليمان، والتي حاولت واشنطون من خلالها لف الحبل بإحكام على رقبة الحكومة السودانية لخنقها أمنياً من خلال السماح لها بالوجود على أرض المعركة بين الخرطوم والحلو وعقار تحت غطاء المساعدات الإنسانية، وليتزامن ذلك مع «الخنق» الاقتصادي الذي أوكلت مهمته لحكومة الجنوب بمنع تدفق النفط. ومن حيث التوقيت أيضاً جاءت جولة كرتي الآسيوية متزامنة تماماً مع تصاعد وتعقيد أزمة النفط بين الخرطوموجوبا، وهي أزمة تجاوزت بعدها الإقليمي إلى الدولي بشكل يبعث كثيراً من الشكوك والريبة. ومن حيث التوقيت أيضاً جاءت الجولة في توقيت تشهد فيه العلاقة بين دولة الجنوب وهذه الدول الآسيوية «محل» الزيارة، نوعاً من الفتور والتوتر الذي دخل دائرة التهديد، والذي كانت حصيلته النهائية قيام جوبا بطرد مدير أكبر شركة نفطية عاملة في الجنوب، وهي الشركة الصينية الماليزية، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هل تستطيع الخرطوم استغلال هذه الظروف؟ البعد الإستراتيجي ثانياً: أما من حيث الأبعاد الاقتصادية والإستراتيجية والسياسية، فيمكن قراءة الجولة من زاوية البحث عن أطر جديدة لتعزيز الشراكة القائمة أصلاً وتقويتها وتغذية خيوطها من خلال الطرق على ما هو قائم من خلافات سبقت الإشارة إليها، واستغلال الصراع الدولي «النفطي» غير المعلن على أرض الجنوب بين أمريكا والصين وماليزيا وأندونيسيا، وتحصينها من أية محاولة للاختراق لخدمة المصالح الاقتصادية القائمة، وتحقيق الأهداف الإستراتيجية المشتركة بين السودان وتلك الدول. ظروف الصراع الدولي أما من حيث الظروف الدولية المحيطة بالزيارة، وطبيعة الصراع الدولي على نفط الجنوب الذي ترمي فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية بثقلها خلف الكواليس، فيمكن الإشارة إلى خلفية هذا الصراع وأهدافه الأمنية والاستراتيجية غير المعلنة واتجاهاته الحالية، وبإلقاء نظرة فاحصة تأخذ في الاعتبار كل تلك الظروف يمكن القول إن الولاياتالمتحدة منذ أن سعت لفصل الجنوب، كان من أهم أهدافها الاستراتيجية في ذلك طرد الشركات الصينية والماليزية والهندية ونحوها التي استعصت عليها أيام حرب الجنوب، في وقت استكانت فيه بعض الشركات الكندية والفرنسية للضغوط، بينما لم تزحزح تهديدات قرنق العسكرية بضرب الشركات الصينية بكين ولا تهديدات واشنطون الاقتصادية والسياسية من داخل مجلس الأمن الدولي، ويبدو أنه جاء الآن الوقت المناسب لكنس الوجود الآسيوي خاصة الصيني في الجنوب، على أن تقوم جوبا نفسها بذات الدور. ولعل ما حدث من خلال طرد الشركة الصينية الماليزية يعزز هذه الفرضية. كرتي والوعود الأمريكية إذن وتأسيساً على ما سبق فإن الظروف الدولية والإقليمية المحيطة بالزيارة وطبيعة الصراع الدولي النفطي المشتعل سراً وعلانية بين بكين وواشنطون يمثلان أقوى عوامل نجاح جولة علي كرتي الآسيوية، لاسيما أن وزير خارجية السودان الذي ظل مرناً في طريقة تعاطيه مع الملف الأمريكي، قد كفر تماماً بالوعود الأمريكية، وبدأ يتنبه للفخ، في حين تيقنت هذه الدول الآسيوية «محل» الزيارة أن الجنوب بظروفه الحالية لم يعد مناسباً لأية عملية استثمارية، خاصة في ظل تحول حكومة الجنوب إلى لعبة شطرنج في الأيدي الأمريكية، هذا فضلاً عن الظروف الأمنية القاتلة التي تعانيها مناطق إنتاج النفط بالجنوب في غياب الحماية والمسؤولية الأمنية للدولة.