يرنُّ الصوت من بعيد كخلخال نجمة مشت على بُسُط المساء، وصخب الأرجل المعقوفة لكواكب كسلى في بيدر الفضاء اللامع، تجعل من ذاك الرنين أشبه بالنداءات القديمة في محاريب الذكرى التي لا تموت، والسنوات المتعجلات يتلفحن بعباءاتهن المزركشة من خيوط الماضي يأتلقن في شجى، كأنهن يتأرجحن متدليات من سقف السماء، حيث تذهب الأفكار والأقوال والأفعال لتحيا هناك نابضة وحيّة مثل مخلوقات من عالم آخر كثريات الذهب يبقين هناك حتى يوم الحساب.! لما رأى صاحبي الدرب دون هذه الذكرى، وأيقن أنّا لاحقان بقيصر الزمن القديم، أناخ راحلته وقال سنبقى هنا، بين راحتي تاريخ يومض ولا يمضي، وأجنحة كأجنحة الطواويس ملونة من ماء الحياة ترفرف حولنا وينثال نهر من المواجد لا ينضب ولا يغور. وثمّة قلق باذخ الاضطراب، يتسلل كما الشعاع الفتِيّ، والأعين في حجريهما تتوالد فيهما الأبعاد من أبعاد.. يرتطم في قاع الكلام وسفينة الحبر تمر أمام القلم الظامئ الذي ملأت فراغاته جزيئات مهلهلة ممزقة مهترئة من زمن لا يصنع إلا ذاته المتكسرة كبقعة ضوء على زجاج الأمس الذي يأبى أن يسافر ويغيب. ويطلُّ قول لزج ملتاع لهوف للشاعر السعودي محمد جبر الحربي كأنه يقتات من سأم يسلمه لحزن أكبر من فراغات القلب والقلم والحبر. قطعانُ قلبي لم تجد مرعى يليقُ بجائعٍ وطيور عيني دون ماءٍ الآن نعرفُ سرّ هذا الثقبِ في جسد السماء قطعانُ قلبي دون ماء الآن نعرف سرّ هذا الرعب قطعان قلبي والعصافيرُ الصغيرةُ دون ماء الآن نعرف سرّ هذي السُحب قطعانُ قلبي دون ماءٍ أسلمتُ ماء قصيدتي لقوافل الفقر البطئ وكان أوّلها فمي: يا دار عبلةَ بالجواء تكلمي! «ب» في صباح غائم من بدايات يوليو1973م ، والريح تزأر والرعد يزمجر والشمس مثل الحسناء الكاعب غلبها الحياء تختفي برهةً وتطلُّ بوجهها من وراء السحب الداكنة، كأن السحاب برقعها وخمارها والرعد يزجرها من أن تطلَّ بوجهها المليح، زخات خفيفة من مطر صباحي، كنّا نركض ونركض ونركض، الميدان الفسيح تناثر فيه أطفال من مختلف الأعمار يتجهون نحو مدرسة زالنجي الابتدائية «ذات الرأسين» في ذلك الصباح مفتتح العام الدراسي، والمدرسة محاطة بالكامل بنبات «الإنجل - engel» الذي أتى به الإنجليز من أمريكا الجنوبية، واستوطن في مناطق جبل مرة وزالنجي.. المدرسة مبنية على طراز فيكتوري قديم، فصول مشيّدة من الطوب والحجر الداكن، أمامها فراندات بأعمدة سميكة مربعة، يتدلى على حوافِّها سقفها الزنكي العتيق، صف طويل من الفصول يتوسطه مكتبا المدير والوكيل وبينهما ممر، في محازاة نهايتي الصف الطويل من الجانبين فصلان آخران، وفي باحة المدرسة مسرح واسع غير مسقوف أو بالأحرى عبارة عن مصطبة عالية لها درج من أربع طبقات أوخمس، وساحة المدرسة التي تقع شمال المبنى الرئيسي للمدرسة تنتصب فيها سارية طويلة لعَلَم السودان عند قاعدتها حلقة دائرية من الطوب المبلوط بالأسمنت، تقف هذه السارية في مواجهة الباب الكبير للمدرسة التي تفتح شمالاً. إلى الغرب مبانٍ أخرى و«كرانك» من القصب قاعدتها الدائرية من الطوب والحجر، كانت في القديم، داخلية لسكن التلاميذ تحولت فيما بعد لفصول إضافية ومخازن للكتب ولتخزين الأطعمة التي كانت في مطلع السبعينيات أو من نهاية الستينيات جزءاً من المعونة الأمريكية أو برنامج الغذاء العالمي وهي السردين ذو العلبة الأسطوانية الحمراء أو البيضاوية الشكل واللون، واللبن المجفف والجبنة الرومية والبسلَّة الخضراء الجافة... وتوجد حول مباني الفصول مربعات صغيرة، «مترين أو ثلاثة أمتار في أربعة» هي أحواض صغيرة نبتت فيها أزاهر وورود وشتلات طفلة، يفلحها التلاميذ خلال حصص الفلاحة المدرسية في ذلك الوقت، وتقع المدرسة في الجزء الغربي من المدينة بجوار زالنجي الأميرية المتوسطة وبيوت المعلمين فيها ومباني الري التابعة لمشروع جبل مرة الزراعي وهي كانت نهاية المدينة من الجهة الغربية في ذاك الأوان. «ت» بين الرهبة والفرح، والتوجس والدهشة، والخوف والإقدام، دلفنا نحن تلاميذ الصف الأول للمدرسة في أول يوم دراسي لنا، سبقتنا له تحضيرات وأقوال واهتمامات ومعاينات القبول التقليدية التي كانت تتم حينئذ لقبول التلاميذ وفق معيار السن وغيرها. بعد قرع جرس طويل كرهبة الخوف، كان الطابور الصباحي بتفاصيله الغريبة نقطة البداية وقد اصطف كل معلمي المدرسة وناظرها في أعلى نقطة بدت لنا في الكون ساعتئذ، من على مصطبة المسرح العالية خطب فينا المدير خطبة عصماء لا تزال أصداؤها تتردد على مسمع تاريخ المدينة، مستنسخة من كل عام يخطب فيه، وعرّفنا الكثير من واجباتنا والمطلوب منا، سرنا في طوابير طويلة إلى الفصول التي دخلناها أول مرة.. واحتوتنا المقاعد الخشبية بأدراجها الطويلة،ستة في كل كنبة، والأدراج أمامنا منظمة معدة بعناية، وكان القلم محفوراً على وجهها وفتحاتٍ عرفنا بعد فترة طويلة أنها مخصصة لمحابر الحبر لتلاميذ الفصول المتقدمة... السبورة السوداء مثبتة على الجدران وأخرى غريبة وضعت على حاملة من الخشب تثبتها أعواد صغيرة مغروسة في فتحات على عمودي الحاملة.. على الجدران لوحات مختلفة هي عبارة عن صور ورسومات وهي جزء من الوسائل الإيضاحية التعليمية المعروفة لتلك الأجيال التي تعلمت في غابر تلك الأزمنة. الدهشة تملأ الأعين، وترتعش الأيدي والشفاه، وتتحرك الرؤوس في التفاتات سريعة وحائرة كأننا نساق لمجهول غريب... وذلك إحساس لا تزال تركيبته المعقدة في كيمياء الحياة تتجدد كلما مرت بالإنسان تجربة جديدة ومرّ عبر بوابة حدث وعالم لم يستكنه من قبل. «ث» بينما نحن في تلك اللحظات القصيرة، التي بدت في تعجبنا واستغرابنا كسنة ضوئية كبيسة، أطل علينا، معلم فارع الطويل نحيل الجسم، في أناقة كاملة يضع يده اليمنى في جيب بنطاله الأسود وقميصه ذي الأكمام الطويلة الأبيض اللون يسطع مع ضوء الصباح ذاك، وفي يده اليسرى كتاب ودفتر وكراسة وحفنة الطبشور الأبيض والملون، ومسطرة طويلة تصل لمائة سنتمتر، وعلى وجهه نظارة وقورة، ألقى علينا تحية بصوت جهوري إرتجت له أركان الفصل وزاد الارتجاج في دواخلنا وهو يقرأ أسماءنا تلاميذ الفصل الذين يزيدون عن ستين، ولطالما كانت الدهشة كبيرة وهو يحفظ الأسماء ويعرف آباءنا وأولياء أمورنا ومناطق سكن كل منا ونحن لأول مرة نلتقي به وإن كان هو ملء السمع والبصر... كان ذاك المعلم الذي يشبه الأسطورة هو، السناري حسب الرسول، أول من علّمنا حرفاً في هذه الحياة. «ج» هو صورة موجودة في ذاك الزمان في أي مكان تقريباً في السودان من المعلمين القدامى ونقطة باهرة من نور التعليم وفيضه مرت على السودان كضوء الشهاب ثم مضت بلا رجعة. أستاذ السناري، دقيق كأنه بندول ساعة، له مظهر مهيب في لبسه ومشيته وحزمه وحسمه وملامحه الأبوية الصارمة والعطوفة أيضاً، له أسلوب لا يبارى في التربية مثلما له طريقته المتفردة في التعليم، عندما بدأ معنا حروف الهجاء كان يقضي أياماً وأسابيع في حصص طويلة ليعلمنا نطق الحروف ومخارجها الصحيحة وفروق أصوات الحروف عن بعضها البعض وأمسك بأصابعنا المرتعشة لنكتب الحروف على الرمل وسطح التراب، ثم كان يحاكي زئير الأسد من خلف الأبواب والنوافذ في قصة «شرف والأسد» وصوت الرعد في «نزل المطر ونزل» وله أهازيج في معرفة حركات التنوين وفي الرفع والنصب والكسر ونذكر منها أهزوجته في: أ أ أ محمدَ أوو أوو محمدُ إي إي محمدِ وفي حصص أخرى كان يقلّد لنا كل أصوات الكائنات، ألبسنا جلد الماعز «الفراء» عندما درسنا تاريخ أجدادنا القدماء، مثلنا الكثير من القصص التاريخية وأجزاء من تاريخ السيرة النبوية والخلفاء الراشدين، أوقد لنا النار في فناء المدرسة بفرك العيدان الجافة بين يديه أو بضرب الحجارة ببعضها البعض، علمنا مهارات الرسم وصناعة الأبقار بقرونها والخيل بأذيالها الطويلة والجمال برقابها الأطول من طين الصلصال الذي كان يوزع علينا في المدرسة بألوانه المختلفة، وأتقنا معه طرقاً مختلفة في الحساب وكيفية حفظ جداول الضرب والعمليات الحسابية الأولية وعدداً وافراً من الألغاز الرياضية، وحبب لنا الرياضة والفن والتمثيل تحت لافتة ما يسمى بالشجاعة الأدبية. كان هو الفرن الذي أنضجنا منذ البداية، عجن مواهبنا وإدراكاتنا، وصاغ عقولنا الصغيرة وسكب في نفوسنا الكثير من القيم والأخلاق الفاضلة وكيفية الاعتماد على النفس وعدم الكذب والصدق في القول، كنا نتدرج معه من السنة الأولى للسنة الثانية من المرحلة الابتدائية وصورته الباهرة المشرعة المشعة لا تزال في نفوس كل من تلاميذه وحتى اليوم لا تغيب ولا تتلاشى ولا تزول ملامحها ومعالمها. «ح» السناري حسب الرسول حسن رحمه الله من أعمدة مدينة زالنجي منذ ستينيات القرن الماضي، قدِم إليها من مدينة الفاشر موطنه الذي ولد فيه وعاش، وأصوله تمتد للمتمة في نهر النيل، لكن أسرته دارفورية أصيلة بالموطن منذ أجداده في عهد السلطنة، ذهب مطلع السنوات الستين من القرن الماضي ليدرس الزراعة في إحدى جامعات يوغسلافيا حيث كان شقيقه الأكبر حسن يقيم هناك يدرس الطب، ورجع السناري لسبب ما وقرر العمل معلماً بينما وصل شقيقه الأكبر الذي كان رمزاً من رموز بلغراد لمترجم خاص وصديق للرئيس اليوغسلافي الشهير جوزيف بروس تيتو، وأتى معه للسودان في زيارته الشهيرة مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وآثر الأستاذ السناري الرجوع للسودان والعمل في أشرف مهنة وهي التعليم ليزيح الجهل والظلام من أطفال منطقة مغروسة في عمق دارفور، منقطعاً لواجب مقدس وعمل عظيم أخلص له وأفنى عمره فيه وأضاء قناديل الحياة من مشعل العلم الذي سكبه من سنوات عمره حتى لاقى الله صابراً محتسباً نفسه راضية مرضية، ويسجل اسمه في دفتر الخالدين لأن الأجيال التي علمها هي التي تحيي ذكراه وتكتب على دفتر الحياة والزمن والتاريخ مآثره وتاريخه.. وهو عند مليك مقتدر عنده الجزاء الأوفى، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.