بصراحة لم أجد من خلال متابعاتي لقضايا السياسة والحكم في جنوب كردفان أسخن من الكرسي الذي يجلس عليه والي الولاية، هذا هو أصعب شيء في جنوب كردفان.. كراسي حارقة بحق وحقيقة، الجلوس عليها وتركها والاقتراب منها كلها حالات تمثل لمن يقترب من كرسي السلطة في كادقلي النار الحمرة. وإن كتب حاكم كردفان الأسبق عبدالرسول النور وقال مرافعته في شأن الأوضاع الحالية في المنطقة وإن طرح بعض أبناء المنطقة وقياداتها الخرطوميين رؤية لتقسيم الولاية إلى ثلاث ولايات: «الغربية، وقدير (المنطقة الشرقية) وجبال النوبة» فإن هذه كلها اجتهادات من صميم الأزمة الماثلة الآن في المنطقة والتي أصبحت عصية على كل الحلول حتى جهود الرجل القوي في المؤتمر الوطني د. نافع علي نافع في أديس أبابا لم تفلح في إنقاذ الموقف حتى اللحظة، أصاب لهيب السلطة في جنوب كردفان قبل مولانا هارون عدداً من الولاة كلهم شيّعتهم الأزمة وخرجوا من كادقلي بلا طعم ولا مزاق لإنجازات تعيد للناس هناك ذاكرة الأيام والحكم على طريقة محمود حسيب وغيره من الذين حكموا مديرية جبال النوبة، فشلوا جميعهم في كسر الحلقة التآمرية على المنطقة من لدن حبيب مختوم في بواكير ثورة الإنقاذ الوطني حتى عهد هارون، وقتها كان مولانا هارون حديث عهد بتجربة العمل المختلط في إطار الدولة الذي يجمع ما بين السياسة والعمل التنفيذي الصرف حينما أدار ملف السلام بولاية جنوب كردفان وهو قاضٍ شاب ترك المهنة للتوّ وانخرط في العمل السياسي. إذن جنوب كردفان هزمت كل الولاة أمثال مولانا سومي زيدان القاضي المهذب، وضابط الأمن القوي المراس محمد مركزو ورجل الدين المرحوم مجذوب يوسف بابكر وابن المؤسسة العسكرية الراحل باب الله بريمة باب الله وأحد الكوادر الأمنية للحركة الإسلامية سابقاً قبل الثورة عمر سليمان والقائد العائد من التمرد خميس جلاب كلهم غادروا من بوابة الفشل ولن يكون مولانا هارون آخرهم بطبيعة الأحداث في المنطقة. فمشكلة التمرد في جنوب كردفان سادتي، أيقظت مشكلات كثيرة كانت نائمة وأخطر ما فيها أن هناك من يتأسفون لعبد العزيز الحلو على اعتبار أنه يريد أن يأخذ حقه بالقوة وفرض الأمر الواقع. في ظل هذا المخاض هناك كثيرون يتوقون للاستفادة من المخاض خاصة أعضاء المؤتمر الوطني نفسه حيث أنهم يرون أن ذات القيادات التي تحكم الآن فشلت في تقديم أي حل يجلب الاستقرار للمنطقة . انحصر اهتمامهم في المحافظة على مناصبهم وهذه ازدواجية غريبة في السياسة وهي ازدواجية تقديم المصالح الشخصية على المصالح العامة وهذه الهزيمة الأولى لمبادئ الحزب في جنوب كردفان لأن مبادئ الحزب تقدِّم المصلحة العامة على الخاصة وأعتقد أن صراعاً من هذا القبيل لن ينتهي إلا عبر إصلاح سياسي حقيقي يستند على إعلاء شأن مبادئ الحزب التي تتمثل في الالتزام التنظيمي. الترضيات والمسكنات هي البيئة الصالحة التي تفرّخ مثل هذه الأفكار. إذن المعالجة المطلوبة لجنوب كردفان ينبغي أن تعتمد على الشفافية والصدق في الإصلاح ونكران الذات والتضحية ومواجهة الواقع المتغيِّر للولاية ومفتاح الحل لعقدة جنوب كردفان سياسي ثم إداري ثم خدمي وإذا ما استطعنا من خلال تفكير جاد ومتجرد تحقيق الإصلاح السياسي الذي يضمن الاستقرار نستطيع أن نرسي نهجاً إدارياً يرسم الخريطة اللازمة لتنمية الولاية واستقرارها والانطلاق من هذا التفكير يعتمد أساساً على النوايا الخالصة الصادقة لأنها هي الضامن لعدم تكرار ما جرى في جنوب كردفان وهذا ما ينبغي علينا فعله بكل أمانة وتجرد لأن هناك مشقة حقيقية تنتظر الحل. جنوب كردفان وضعها يختلف عن بقية السودان، فالولاية تتنازعها ثلاثة برتكولات: البرتكول الأول هو برتكول المناطق الثلاث وبرتكول جبال النوبة وبرتكول أبيي، وهذه البرتكولات أوجدت ثلاثة أجسام إدارية على الأقل ولن يستطيع أي سياسي أياً كانت عبقريته التوفيق بين المتناقضات ومولانا أحمد هارون مهما أوتي من ذكاء وحكمة فلن يستطيع توليد استقرار في ظل وجود الثالوث النيفاشي هذا الذي زاد الوضع تعقيدًا ورسم صورة قاتمة لمستقبل المنطقة. هناك الآن من يرون في جنوب كردفان أن مولانا هارون رجل قابض كل الأمور تحت يده فقط، فلا يشرك معه أحداً، هذا الرأي أصبح بعض قادة المنطقة يصرخون به جهاراً نهاراً وحتى هناك من يرى أن سياسيين كباراً من أبناء الولاية والذين لديهم مكانة خاصة بين جماهيرهم أصبحوا بعيدين من حلقة الحكم والرأي والمشورة في قضايا وهموم الولاية بسبب تباعد الخطى بينهم والوالي. إذن على مولانا هارون أن يستمع لهؤلاء وأن يعيد قراءة أوراقه في جنوب كردفان فكونه حاكماً منتخباً هذا وحده لا يكفي طالما في المنطقة حرب، وفي مقدور المركز أن يتدخل في أي لحظة طالما هناك حرب وهناك تململ وعدم رضا من قيادات الولاية المنتمين للمؤتمر الوطني ولأحزاب متوالية معه على أسلوب إدارة الحكم في الولاية. مربط الفرس أن منطقة أبيي في جنوب كردفان منطقة إستراتيجية بالنسبة للحكومة القومية فيها أكبر اكتشافات نفطية وهذه الوضعية جعلت قوى أجنبية تطمع في تأجيج الصراع حول المنطقة وتسعى لإقامة قواعد عسكرية فيها وبهذه المعادلة ربما رأت الخرطوم أن تأتي بحاكم بمواصفات خاصة لينفذ سياساتها بعد ما أصبحت المنطقة منطقة لأطماع دولية علاوة على النشاط الكنسي المكثف الذي كان له القدح المعلى في تأجيج الصراعات في المنطقة. نخلص ونقول: لابد من مؤتمر جامع للتفاكر في كيفية حل الأزمة في جنوب كردفان، مؤتمر لا يقتصر على مكونات المؤتمر الوطني فقط وإنما لكل القوى السياسية الأخرى صاحبة الشأن في المنطقة لأن أبناء جنوب كردفان يرون وبكل الصراحة أنهم كانوا ولا يزالون على الهامش من كل المعالجات والاتفاقيات الخاصة بالمنطقة.