ذكرى المذكرات وعرفت اليوم قبل الأمس أن المذكرات.. أقوى من الدانات.. وكان ذلك اليوم.. حينما كنت أعمل موظفاً في أحد المرافق الحكومية في السبعينيات كان بالقرب من مكتبنا الفخيم «بوفيه قديم» يقدِّم خدمات الفطور للعاملين.. كانت خدماته جيدة.. ولكن في يوم من الأيام ويبدو أن صاحب البوفيه أصابه الغرور، فلم يعد يدنكل الفطور ولا يهتم بالجودة في المواد فغش في الزيت فكان طعمه «مقيتًا». وبما أن عملنا كان مرتبطاً بالجمهور.. ولم يهتم للأمر بقية الزملاء والحضور نبهت الجرسون عدة مرات فقابل شكوتي بازدراء وقال لي: «ياخي إنت الوحيد العامل لينا غلبة.. باقي الموظفين ديل واحد فيهم اشتكى مافي داير تعمل لينا مشاكل مالك؟!» والحقيقة إنني شعرت «بالهوان» بالرغم من أن قضيتي عادلة.. وامتلكني شعور بأن القوة تكمُن في الأغلبية المظلومة الصامتة.. وهم يعلمون أن الزيت زيت «غلغل» وأنه رديء.. وأحسست بأنني يمكنني أن أجمع شتاتهم.. ولم أك في ذلك الزمن الشمولي أدرك أن للمذكرات قوة مهيبة.. فبدت لي فكرة عجيبة فرضتها هذه الغطرسة من الجرسون ذو الغباء فسوَّلت لي نفسي أن أحمل ورقة بيضاء وأخط عليها مذكرة شديدة اللهجة أرفعها لإدارة المؤسسة.. خصوصاً أن البوفيه قد ناله صاحبه في عطاء.. وبالفعل وفقت في أن أجمع التوقيعات.. بل أشرت إلى رداءة الخدمات وليس الأمر قاصراً وحده على الزيت.. كما أن مستوى الجرسونات لا يحسنون الأدب مع الزبائن و«يتلكعون» ويتلفظون بأقبح العبارات. وبيني وبينكم ما كنت أنوي أن أُصعِّد المذكرة للإدارة العليا، فعمدت إلى حيلة ذكية.. حيث تآمرت مع زميل صديق أن يحمل المذكرة وبها التوقيعات في لحظة دخول الجرسون علينا حينما يُحضر الطلبات ويقوم «بتسريبها» ليعلم محتواها.. وبالفعل نجحت الخطة.. فكحل الجرسون المذكرة و«شمشم» وعرف من ورائها.. وفي أقل من لحظات هرع إلى المتعهد صاحب البوفيه «صوف».. فتحدث إليه بانفراد.. فجاءني مهرولاً محنساً وقال لي:يا صاحبي إنت تباع مشاكل كدا مالك؟ ما كان تكلمني وتقول لي غيرو لينا الزيت أو أي صنف ما عاجبك.. نحن قاعدين نقصر معاك؟. أفو يا فلان.. دي ما الحارينها فيك.. تسمع كلام الجرسون الزفت دا.. الموضوع دا أنسا». ومن اليوم الثاني تغير الزيت لذلك السمسم النقي والفول السيوبر البهي وتحسنت الخدمات وتأدب الجرسون وأحسست بأنني قوي وأن الأغلبية الصامتة إذا ما انتفضت فإن سحرها له دوي. وعرفت اليوم فقط معنى المذكرات.. وقلت في نفسي أتاااريني أنا أول من جرب قوة وصولة المذكرات؟!. «شنطار».. التشرُّد.. التشرُّد.. الت شرررر.. رد! كانت قضايا التشرُّد قبل أن تستعصي على السطات تجد حظاً من المعالجات.. كانت الحملات المخصصة ومحاكم الأحداث التي هي اليوم محكمة الطفل.. ولكل محكمة باحثين اجتماعيين.. وهنالك الإصلاحيات أو بعض المعالجات للبحث عن ذوي المتشردين الذين كانت غالبيتهم من الأطفال. لم يك الأطفال في ذلك الزمن تجبرهم ظروف الحياة لكي يبحثوا في «الكوش» والقمامات عن لقمة العيش.. فمنهم من يضطر لسرقة المنهولات أو الحديد الخردة أو ينظمهم بعض الكبار في عصابات لهذه الخطورة التي تشاهدها اليوم. والحكومات والمنظمات ومنظمات المجتمع المدني عليها أن تولي قضية الطفل المتشرد وعمالة الأطفال اهتماماً خاصاً؛ لأن الفاقد التربوي ليس بأيديهم، ولا ينبغي أن يكون ضمن خطة المحليات للقضاء على المخالفات بطريقة المكافحات الكلية بل ينبغي أن يكون من زاوية البحث عن حلول جذرية مع بعض الجهات المعنية فيما يلي الأطفال المتشردين، ويجب أن تولى قضية الطفل المتشرد أهمية فهي «معضلة» قديمة استفحلت واستشرت حتى «جات للحكومة في تولا» وجات في الكوابل والمنهولات وشبكات الري.. وهي التي كانت من قبل وما زالت كل جهة ذات اختصاص تقول «وأنا مالي»!..