يجب أن نعترف بأنه لولا الظلم لما كان هناك قضاة ونيابات، ولولا الشغب والجريمة لما كانت هناك شرطة، ولولا المشجعون لما كانت هناك كرة قدم وأخيرًا لولا القراء لما كانت هناك صحف إطلاقاً «إطلاقاً دي مريحة خلاس».. خوف الناس من إفشاء أسرارهم وتعرُّضهم للفضيحة أو المساءلة القانونية جعلهم يتنكبون مسالكَ وعرة في التمويه والإخفاء للأسرار أو يحتفظون بها في صدورهم حتى تلتف الساق بالساق، وقديماً قيل:« طالب السر مذيعه وطالب الوديعة خائن».. هناك فئة من الناس لا تعرف حدود حريات الأسئلة فيسألونك عن أشياء غاية في الخصوصية «عوارة منهم»!! فإن لم تجب عليهم ظنوا أنك «عامل عمايل» وتستحي أن تبوح..أضف لهذا أنني رأيت البعض يسأل إحدى قريباته أمام الملأ : كيف الراجل معاك؟ تاني ما جبتي جنا؟وعامله كيف مع نسيبتك أم جضوم ديك؟؟؟. ذات يوم لاحظت أن هناك شابة تجلس على أريكة وحولها مفرزة من الفتيات يتدافعن بالمناكب، وهناك أخرى لم تجد متسعاً يمكّنها من سماع الهمس فركعت عن بعد واستلت من رقبتها مقدار شبرين علّها تلتقط بعض الكلام من الراوية.. سألت إحدى العاملات، دا شنو يا حاجة عوضية؟ قالت: البت نمارق البتحكي دي جات من شهر العسل!!!! صحيح أنه لا خير في آنية لا تمسك الماء ولا خير في إنسانة لا تمسك السر... قال المتنبي: وللسر مني موضع لا يناله * نديم ولا يفضي إليه شراب ومعروف أن السكران يقول كل شيء ويفعل كل محظور لأنه فقد الكوابح أوعَ بالك. الحرص الشديد على الأسرار أجبر الناس على ابتكار وسائل وتمويه تجعل الشيطان شخصياً في حالة ذهول.. هل تعلم أن سلاطين باشا عندما كان حاكماً لإقليم دارفور كان يراسل غردون باشا في الخرطوم عن طريق الحمير!!! قول لي كيف؟عندما يعلم سلاطين أن هناك قافلة متجهة إلى الخرطوم يكتب رسالة ويلفها بشكل أسطواني ثم يذهب ليلاً إلى زريبة الحمير المسافرة وينتقي حمارًا فارها فيقطع جرحاً عرضياً في آلية الحمار ثم يرفع الجلد ويضع الرسالة وبعد ذلك يصب ملحاً على مكان الجرح كي يلتئم.. عند وصول القافلة إلى الخرطوم يطوف غردون على الحمير فما أن يجد الحمار المجروح حتى يفتح مكان الجرح ثانية ويستخرج الرسالة وتاااااني يدعك المكان بالملح.. مثال آخر وهو ما ذكره الأستاذ الدرديري محمد عثمان في مذكراته حول نشوء مؤتمر الخريجين في سرّية شديدة خوفاً من عيون الإنجليز التي لا تغمض وهو أنه جمع نفرًا من أبناء السودان المستنيرين للعمل السياسي تحت اسم «جمعية ترقية الأكل البلدي» ليصرف أنظار الجواسيس عنهم وفعلاً نجح وتطورت الجمعية حتى أخذت اسمها الرسمي وهو «مؤتمر الخريجين»عام 1938 للميلاد.. لم ينج «الفيس بوك» من هذه الاحترازات حيث اعتمد بعض الناس أسماءً مستعارة مثل: نجمة السهرة، عاشق الورد، الخائن، سيد الاسم، أمير الشوق، وهكذا.. أضف إلى ذلك أن بعض الرجال وخوفاً من«المدام» التي أصبحت سيفاً على الرقاب، يسجلون أسماء زميلات العمل أو الدراسة زمااااااان بأسماء رجالية تفوح منها رائحة العنف والفظاظة مثل: الوافر ضراعه، عشا البايتات، عوج الدرب، فارس الحوبة، أب جنازير... إلخ. الخجل والقيود الثقافية في بلاد السودان حرمت الكثير من الناس من الغناء والمديح علماً بأنهم يمتلكون أصواتاً عالية النفاذية والتطريب بالذات للذين انهزموا عاطفياً في عدة معارك، بل نجد النساء الشاعرات كنَّ يطلبن من بعض الشعراء الذكور تبني ملكية قصائد من نسجهن وتحذره قائلة:«أوعك تجيب سيرتي في خشمك! فاهم؟». من هذه القصائد أو الأغاني مجهولة النسب أغنية «طيبة الأخلاق» التي يغرّد بها كنار السودان عثمان حسين وقد حار الناس في من هو شاعرها الذي فقد محبوبته، والحقيقة يا شباب هي أنها لامرأة من نساء أمدرمان وقد نظمتها بعد أن نقلت وزارة المعارف زميلتها وحبيبة عمرها التي كانت تعمل معها أستاذة بالمدارس الوسطى من أمدرمان إلى الأبيض حتة واحدة كدا، فكابدت تلك السيدة لوعة ووحدة وسئمت الحياة، فسالت هذه القصيدة من حناياها حيث أبكت الآلاف ولا أحد يدري من قالها وفي من و لماذا؟؟