حكى صاحبي لما رأى الدرب دوننا، صار بئراً من أحزان، واعتصره ألم صفيق..! فقال: «مَن مِن الناس، تمتصه أمواج الليل مثلنا، ويغرق في زحام السأم كأنه قطعة من نشيج..»..!! وارتاح بكلتا كفيه فوق تلة الشجن، ورنا في استغراق نحو وجه القمر البعيد، وكان جبل نيالا يطلُّ هناك تحت هالة النور البدري، كوحش خرافي تمطّى كما الليل، فاتحاً ذراعيه للمدينة التي تنام أمامه إلا من لمع أضواء بعيدة، ومن قريب في الأحياء الطرفية..« ضو الفوانيس البوقدن ماتن»... عاد صاحبنا بعد الغياب الطويل، تغيّرت ملامح ومعالم، والمدينة تتقارب من بيروت بعد أن غيرتها الحرب في 1975م، يتنهد المكان بصوت محمود درويش: بيروت! من أين الطريق إلى نوافذ قرطبة أنا لا أهاجر مرتّين ولا أحبّك مرتين ولا أرى في البحر غير البحر... لكنيّ أحوّم حول أحلامي وأدعو الأرض جمجمة لروحي المتعبة وأريد أن أمشي لأمشي ثم أسقط في الطريق إلى نوافذ قرطبة بيروت شاهدة على قلبي وأرحل عن شوارعها وعنيّ عالقاً بقصيدة لا تنتهي وأقول ناري لا تموت... على البنايات الحمام على بقاياها السلام... أطوي المدينة مثلما أطوي الكتاب وأحمل الأرض الصغيرة مثل كيس من ضباب نكّس رأسه كسارية مهزومة، ومثل موت ذابل في شفق الحضور، طوى تحت جنحه المبتل بالدمع بضع كلمات خجلات مضربات، وسكن مثلما يسكن الليل، وكما تؤوب عصفورة مهيضة الجناح إلى عش فقير... ضاع منه الحلم الذي بناه في قلبه، وانسال مثل السراب اللزج بعيداً عن متناولات اليد.. وهمى الحريق.. ويرتطم الوجه بالوجه.. وتتساوى القلوب والأعين والسيوف التي لنا والسيوف التي أثكلتنا..! يتساوى كل شيء في الزمن الرمادي العربيد، ويغرق الحق في مبصقة الباطل، ويسبح الباطل في دمع الحق ودمه الهريق.. ووحده وقف صاحبي كالشحّاذ، يعلن معرفته بكل الأبواب لأنه في لحظة ظن نفسه يعرفها لأنه مثلها مقطوع من شجرة!! وتلك حكاية بلا بدايات ولا نهايات ولا أستار.. «ب» لقد أمعن صاحبي أن يضيع، فقد تجشأ آلامه وهو يقف على أطلالها البالية، وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه..! وهذه محنة من يرى جراح وطن ودماء تراب لا يُمل..! ولكم صاغ الزمن وحده كل هذه البكائيات الصامتة وتركها ترتعش تحت سارية الريح الحُبلى المجنونة.. ففي هذا الزمن إما أن تغدو دجّالاً أو تصبح بئراً من أحزان لا تفتح بابك للفئران كي يبقى فيك الإنسان.. فقد يبكي على وطنه من يعرف قيمته.. وقيمه وقيامته وقوامته.. نحن في وطن يرقد تحت عريشة الضياع.. يبيعونه على الرصيف بثمن بخس، ويكرعون بعد مكاسهم فيه، بعض دمه الزكي وكأنه لقيط لا جذر له ولا أصل له ولا وجه له..!! هكذا يقطعونه إرباً، ويرقصون وهم يعلّقون طحالب القيعان حول رقابهم، ويضاجعون هياكل الأموات في الذكرى.. ولا أحد يرقب احمرار عجينة الطوفان، ولا أحد يسد نافذة الريح..!! «ت» عاد صاحبي بعد غياب.. وبعد الغياب، يضطرم الحنين، للملامح والمعالم والأطلال.. للناس والبيوت والطرقات والحقائق والقيم.. ويشتعل الشجن والحنين والشجى.. فجميعنا.. لنا في كل ناصية حكاية، وفي كل ركن قصيد وعند كل زاوية أقصوصة، وبين كل حارة ذكرى وأغنيات.. هكذا نحن في كل مدينة أو قرية أو نجع وفريق.. سأل عن حسن وني مجنون الحي الذي يصرخ في القطارات المسرعة لمحطة السكك الحديدية وللعربات العابرة... قلنا له.. مات ..!! سأل عن مقهى أب ستة... قلنا له احترق بعد موت صاحبه وناوشت الريح ما بقي منه وضاع ..!! سأل عن بِركة «هلو».. قلنا له دفنتها الرمال وعافها الأطفال وخاصمتها مياه الخريف ..!! سأل عن «ود العرب» الذي يصلح الأحذية في قلب سوق نيالا، وعن دكان مماكوس وبابكر الجزار مشجع هلال نيالا التاريخي وود أب زرقة المشجع المريخي المهول.. وعن جوكر مذيع الكرة والسينما في الستينيات والسبعينيات ... قلنا له إن كل شيء ذهب وكان من ذهب ولجين ..!! سأل عن سينما نيالا العريقة... قلنا له منذ إن تركت هيما ماليني بولويوود الهند وسحقت الأيام فلم جانوار، ومات جون واين وتقاعد بود سبنسر وترانس هيل ورحلت صوفيا لورين وصمتت مسدسات رعاة البقر في أفلام الوسترن، واعتزلت فاتن حمامة، لم يذهب أحد لسينما كامل دلالة ..!! سأل عن السكة الحديد وقطارات منتصف الليل وصافرة القطار الطويلة.. قلنا له كل ذلك تلاشى وارتحل مع الماضي كرغوة صابون عاتية نفختها الرياح ..!! سأل عن المدينة كلها.. قلنا له غزاها المغول والتتار والجراد ..!! سأل عن الوطن كله... صمتنا ...! وصمت هو إلا عينه الناطقة بالدمع ..!! عاد صاحبي، فوجد الملامح قد تلاشت، شاهت الدواخل، وغابت المرائي، وذبُلت الأفئدة وضاع النشيد.. وشحُب الفجر وأدرك الشمس الذهول.. لم يجد ذلك الدفء القديم ولا الصور التي ظلت مجمدة في ذاكرة غيابه، وتصدع العتيق على بلاط من رخام..!! وخرجت زفراته من صدر الفيتوري.. ٭ أمس جئت غريباً وأمس مضيت غريباً وها أنت ذا حيث أنت تأتي غريباً وتمضي غريباً تحدق فيك وجوه الدخان وتدنو قليلاً وتنأى قليلاً وتهوى البروق عليك وتجمّد في فجوات القناع يداك وتسأل طاحونة الريح عنك كأنك لم تك يوماً هناك كأنك لم تكن قط يوما هناك «ث» ثم هوى صاحبي.. يقبِّل التراب الذي دنّسوه، فقد لوّثته نعال الدجالين. وجد التراب ولم يجد النقاء.. وجد المعالم ولم يجد الروح وجد الناس ولم يجد الصفاء وجد السماء ولم يجد النجوم وجد النهر ولم يجد الغناء ووجد السلطان ولم يجد الوطن..!! وثمة ما يدعوه للبكاء.. فكل شيء غبّرته المطامع الدنيئة وسوّدته الشهوات الجامحة.. تكاثرت بكتريا المال، وتسللت كل الأمكنة وتسوّرت كل محراب، وتناسلت جائحة الحرام، حتى انطفأت بشبقها المجنون، وخرج «القرامطة» الملثّمون من كل الفجوات، يأكلون ولا يشبعون ويشربون ولا ترتوي خلاياهم التي امتصت كل شيء حتى ذرات الرمل وعرق الصابرين العراة الكادحين الحفاة.. وثمة ما يدعو للنحيب..!! لا أحد في مكانه، ولا مكان لأحد..!! حتى المرايا لا تتذكر من يزورها..!! وحتى القناديل لا تعرف رقصة النار.. ولا العاصفة تسترجع صدى زفيرها وزئيرها..!! فقد تداخلت الصور في الصور.. وتداخل الخزفي والغسقي.. اتسعت مسامات الخبال..! والزمن المتلاف أكمل لعبته، السياسة تقيأت أسوأ ما في جوفها، وزحمت رائحتها الكريهة العرصات والأمكنة..!!! وعصبية العرق والقبيلة والجهة، تقيّحت وسال صديدها وغطى وجهها جيش الدمامل والبثور.. واقتصاد الجشع والنهب ولوثة الحرام، سرى مستشرياً كالسرطان، يدمر خلايا المناعة، ويفتك بما بقي من صلاح، حتى صار الفساد واللقف والفراغ مساوياً ومرادفاً للتعاملات والبيوع والخِراج والمال..!! أما حُطّاب الليل، فقد قنعوا من الغنيمة بالإياب.. وأي إياب.. في وطن مثخن بالجراح موبوء بالشقاق، نحروا سماحته وجلاله وبهاءه وسفحوا وسفكوا دمه كالظبي البري.. وغابوا وراء حشرجة موته وصراخه.. ٭ ويبكي صاحبي.. على كل شيء، لأنه رأى الدرب دون الوطن.. درب من عناء.. ومسلك يستصرخ الدماء.. ٭ خارج من دماك تبحث عن وطن فيك مستغرق في الدموع وطن ربما ضيّعت خوفاً عليه وأمعنت في التيه كي لا تضيع