عذراً عزيزي القارئ الكريم لقد انقطعت لما يقارب الأسبوع عن مواصلة هذا الموضوع بسبب سفري إلى كردفان لأداء التعازي الى الأهل في فقيدتي الأسرة نسأل الله أن يجعلهن من أصحاب اليمين ويسكنهن فسيح جناته.. نواصل اليوم الجزء الثاني من حديث الإصلاح الحزبي في السودان لأهمية الموضوع وأثره على الحياة السياسية والاجتماعية العامة وعشماً منا في إحداث التغيير في برامج ومقاصد النشاط السياسي بالبلاد الذي يواجه إخفاقاً في الممارسة وانحرافاً في المنهج..!! إنني لم أكن من أصحاب الرؤية المتشائمة لمستقبل الديمقراطية في بلادنا بقدرما مشفق على حال بعض الأحزاب السودانية التي تعيش حالة تصارع نخبوي وتمدد للذاتية والشخصية وهو تعبير حقيقي لتضاؤل الأفكار والبرامج وانفصال واضح ما بين برامج الأحزاب وحاجات وضرورات المجتمع وبذلك أصبح كثير من المجموعات التي تسمي نفسها أحزاباً وسيطًا غير آمن بين الدولة والمجتمع، وهي حالة يمكن ان نبررها ونختصرها في أن هي الكيانات «الأحزاب» فشلت في صياغة برامج وسياسات للمجتمع والدولة وهذا أيضاً يرجع أيضاً إلى ضعف البنية التنظيمية للأحزاب.. في بريطانيا مثلا حزب العمال يمثل مصالح نقابات العمال والطبقة العاملة عمومًًا وهو تأسس على ذلك ويعبر عن مصالح هذه الفئات ويمثلها لكن في السودان نجد حزبي «الأمة» و«الاتحادي» مثلاً بنيت مصالحهما على أساس عشائري طائفي ومن هذا النهج ليس باستطاعتهما إحداث تغييرات جذرية في المجتمع وكذلك قاعدتهما تدين بالولاء والإذعان التام للقيادة لأسباب عديدة منها ضعف الوعي وعدم المؤسسية الحزبية.. هنا يمكن أن نقول لا يمكن أن تكون هناك ممارسة ديمقراطية رشيدة في البلد إذا لم تكن هناك ممارسة ديمقراطية حقيقية داخل الأحزاب عبر المؤتمرات في كل المستويات لأن الممارسة الرشيدة والمرشدة داخل حركة الحزب تكسب أعضاءه خبرات تنظيمية وسياسية وتُمكِّن الحزب من المساهمة في صناعة وإعداد القادة السياسيين للدولة والمجتمع. المتغيرات والتقلبات التي شهدتها الحركة الحزبية في البلاد «ظاهرة الانشطارات» لم تأتِ بفكر جديد يحطم ذلك الموروث «الأبوي» القديم، فالمجتمع السوداني لا يزال يبحث عن وضع جديد وواقع حضاري ونهضوي جديد، لأن ظاهرة التشظي لم نتجاوز عبرها الماضي وهو الانتماءات التقليدية ولم نبلغ كذلك إيجابية تصلنا بالمستقبل الديمقراطي الآمن وكذلك الانتماء للدولة القومية والوطنية، ما زلنا أشبه بمؤسسات الترويج لأفكار وسياسات النخبة فلم يكن للجماهير دور حقيقي في صنع القرار.. المؤتمر الوطني الذي قامت قاعدته على أساس فكري ومنهجي سعى واجتهد الى تغييرات كلية في المجتمع والدولة في الشكل والممارسة وقد استطاع إلى حد كبير تنشيط تعبئته السياسية واستقطاب الجماهير لبرامج الدولة القومية السياسية والاقتصادية، وبذلك نجح في واحدة من أهم نقاط الممارسة لكنه قد انتكس وتراجع عن إدارتها، وهو نجح في تحقيق التكامل القومي في الانتشار الرأسي والأفقي للحزب في كل ولايات السودان ومحلياته لكنه لم يصمد أمام تحديات هذا التوسع وقد استجاب لبعض الضغوط الجهوية والإثنية، وهي معقبات الممارسة الديمقراطية بالبلاد، مع كل ذلك المؤتمر الوطني يحمل قدراً كبيراً من التفاؤل وبشريات الإصلاح إذا خلصت النوايا والعزائم ووضعت إستراتيجية جديدة تحدد العناصر اللازمة لتحديد اتجاهات الإصلاح وحسم النقاط الجوهرية في هذا المضمار، وتبني موقف سياسي حاسم للتفلت في المركز والولايات وهذا لا يمنع الممارسة الديمقراطية الرشيدة داخل الحزب واحترام إرادة المؤسسات وفق القانون واللوائح المنظمة لنشاط الحزب لا أهواء الأفراد.. في إطار الإصلاح لا بد من قانون للأحزاب يناسب بيئة المجتمع السوداني ويحدد حجم وأطر الأحزاب وضبط الممارسة وذلك لعلاج ضعف الممارسة التي تشتكي منها الساحة السياسية، وكل يوم نسمع جديدًا من البدع وسوء السلوك الحزبي في السودان آخرها الحديث المثير لرئيس حزب الأمة الإصلاح والتنمية «الزهاوي إبراهيم مالك» والذي دمغ فيه السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة باتهامات عديدة منها تبديد أموال الحزب والسيطرة عليها دون منحها للآخرين في الحزب كما اتهمه بإعاقة وحدة أحزاب الأمة المتناثرة.. نستطيع أن نقول إن حديث «الزهاوي» وواقع الممارسة يعطي الشرعية ويؤكد كل ما ذهبت إليه من حديث وهو افتقار هذه الأحزاب إلى البرامج والمناهج في إدارة النشاط السياسي، لذا وفي إطار البحث عن الإصلاح لا بد من وضع معالجات بالقانون لاختلالات وظائف الأحزاب والممارسة الداخلية لهذه الأحزاب وهو الجانب الوظيفي المهم الذي أقعد القوى السياسية السودانية وأضعف بناءها الحزبي وحدّ من قدرتها على تطوير النظام السياسي والديمقراطي.. غياب البرامج أدى إلى عزوف الجماهير عن المشاركة في أنشطة كثير من الأحزاب، وهنا أشير إلى أن برنامج الحزب ليس بالضرورة أن يضعه ويرسم رؤيته الكلية من ينتسبون للحزب ولكن يمكن أن يضعه خبراء متخصصون وأصحاب معرفة علمية وعملية تحت إشراف لجان يحددها الحزب لدينا صنفان من الأحزاب - الأول مشكلته برامج ورؤية غير واضحة والثاني لديه برامج وأفكار لكن عنده مشكلة ممارسة في الواقع، إذن لابد من حلول جذرية لهذه المعضلات لأغراض الإصلاح الحزبي..