إن الآداب والفنون الشعبية عديدة وعريقة في السودان منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد ابان الممالك القديمة الشهيرة في «نبتة» و«مروي» حيث نجد في الآثار التاريخية القديمة في شمال السودان كتابات ورسوماً كثيراً تعبر في مضامينها عن عدة مناشط ادبية وفنية كانت معروفة وسائدة في اوساط الملوك والشعب وكانت التراتيل والتعاويذ في ذلك الحين تشبه الى حد بعيد في صياغتها ونظمها اللغة الشعرية في عذوبتها ورويّها وجرسها واخيلتها، ويكون ايقاعها وصداها الموسيقي على الاسماع والقلوب موضع القبول والرضا عند انشادها وغنائها في مناسبات الفرح وحفلات تتويج الملوك في الممالك القديمة في السودان قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام بفترات طويلة، كما تمّ العثور على آلات العزف «الربابة الطمبور» من مخلّفات العصور الماضية في السودان مما يدل على ان الشعر كان ينظم ويلحن وينشد ويغنى بمصاحبة تلك الآلة الموسيقية الشعبية. ومن فنون الصناعات الشعبية في العهد المروي نذكر «الفخار» المصنوع باليد الذي اشتهرت النساء بصناعته في ذلك الوقت، والذي يكشف عن مهارة مدهشة في تصميم شكله ونمطه ويعكس التقاليد المتأصلة العريقة، وكان الفخار المصنوع بالعجلة الذي اشتهر الرجال بصناعته دون النساء في ذلك العهد، قد تميّز بأنه اكثر تنوعاً واستجابة للمتغيرات في الاساليب الزخرفية كما اشتهر المجتمع المروي ايضاً ببعض الحرف الشعبية مثل الحفر على العاج الذي كان ينحت ويرسم برموز واشكال الحيوانات كالزراف والنعام وافراس البحر، كما تطورت لدى الانسان في العهد المروي الصناعات الخشبية مثل علب الحلى والخزائن والآلات الموسيقية، واصبحت تلك الصناعات تعبر بعد مرور الزمن عن المزاج المروي الخاص تجاه القيم الجمالية التي تتعلق بالبيئة الطبيعية وانعكاساتها عليه بوصفه شخصية ذات سمات تنم عن مقدرة فائقة على رصد الظواهر الطبيعية واستلهامها في اعمال فنية جيدة الصنع والابتكار! ويجدر الذكر ان مملكة مروي موقعها الجقرافي على الشاطئ الشرقي من النيل بين الشلالين الخامس والسادس على بعد اربعة اميال شمال كبوشية وهذا الموقع يربطها بداخل البلاد وخارجها. ويرجح المؤرخون ان تكون اللغة المروية اول لغة افريقية مكتوبة في ذلك الحين. وعن الأدب الشعبي في هذا العصر الذي نعيش فيه ونشهد احداثه اليوم في كل مناحي الحياة، يحدثنا الاستاذ عز الدين احمد حسن في كتابه «الادب الشعبي في السودان» قائلاً: إن التراث الشعبي من فنون وآداب شعبية يعبر عن الحياة بما فيها من افراح واحزان، وهو تراث فكري لحياة الشعوب لما يتضمنه من قيم روحية وفنون ادبية شعبية ومما يجدر ذكره ان التراث الشعبي في الاصطلاح العلمي الحديث يشمل القصص الشعبية التي تنتقل من جيل الى جيل وهو تارة على هيئة اناشيد ومدائح دينية او قصص وحكايات.. وهذا الانتاج الفني الشعبي نجده في الاغاني الشعبية الدينية، والحماسية والعاطفية وقصص شعراء الربابة، كما نجده في ادب المناحة والأحاجي والمثل السائر وحكاوي الاطفال والعابهم الشعبية واهم عناصر الادب الشعبي ومكوناتها تتمثل في فنون الشعر الشعبي كالزجل والتواشيح والدوبيت والاغاني الشعبية واغاني البادية والصبية.، ومن فنون النثر الشعبي: الملحة وادب المدائح والسيرة الشعبية والاسطورة والامثال والحكم والاحاجي والالغاز والنوادر. وعن الشعر الشعبي «الدوبيت» قال الدكتور عبدالمجيد عابدين في كتابه «تاريخ الثقافة العربية في السودان» لقد تم دخول الدوبيت الى السودان بواسطة رجال القوافل بين مصر والسودان عن طريق دنقلا غرباً واخرى عن طريق اسيوطالفاشر في «درب الأربعين». ومن اشهر شعراء الدوبيت في السودان الشاعر الشعبي محمد احمد ابوسن الملّقب بالحاردلو الذي ولد في سنة 1820م وتوفي في سنة 1917م وقد عاصر الشاعر الحاردلو الخليفة عبدالله في الدولة المهدية، وقضى فترة من حياته في ام درمان ووصف في شعره جمال البادية وتغنّى بالشجاعة والكرم. وفيما يلي ابيات في الشجاعة انشدها «الحاردلو» ابان الحكم الاستعماري البغيض واصفاً احوال الشعب السوداني في تلك الفترة التاريخية بالشبل المستضعف قسراً واضهطاداً، وذلك بقوله: جابوك السوق ساكت درادر ضيعة وامك في الحريم ماها المره السميعة نترة ناس ابوك اللي رجال لويعة وات كان كبر.. جنباً تقلب البيعة! جابوك في السوق ساكت وللفرّاجه وامك في الحريم مره بتقضي الحاجة وان كان حبر .. ما بتنجلب لخواجه! وعن الامثال الشعبية يقول الاستاذ عز الدين احمد حسن في كتابه «الادب الشعبي»: ان المثل الشعبي يستعمل لاغراض تعليمية في صيغة نصيحة او نقد لاذع او قصد العبرة والعظة! ومن الأمثال الشعبية السودانية نذكر الآتي: «درب السلامة للحول قريب» و«في التأني السلامة وفي العجلة الندامة» و«عينك في الفيل وتطعن في ضله» و«صنعة في اليد اماناً من الفقر» و«حبل الكضب قصير» و«الما ببلع ريق على ريق ما بمسك رفيق» و«الضايق عض الدبيب يخاف من جر الحبل»!! وفي الاغاني الشعبية السودانية كثير من معاني الفخر والحماسة وتمجيد للعمل ولذوي الهمة العالية في اوقات السلام او .. في ساحات الوغى دفاعاً عن الوطن.. وفي الاغنية الشعبية التالية اشارات ذكية للشجاعة والبطولة: ثابت يا اب قلباً حديد يا بحر الميط الدق في الحصحاص يا مطر السواري الماك هبوب ورشاش يا الدابي اب كريق التحت القيوف عراش.. غطاي الولايا للدمع قشاش تلب يا صقر .. تلب يا صقر فرّق الرخم مني! ومن شعر الحماسة في الاغنية الشعبية ذكر الآتي: انا غنيت للهمام نمر للصاقعة ام زحام ود الشيخ مصطفى العقد الدم بالعصا الدابي الفي عريشتو.. جفل الناس من بشيشتو البجري.. وانقيشتو طبلو.. الريد شالوا ريشتو! وتدعو الاغنية السودانية الشعبية إلى العمل والانتاج: في الجزيرة نزرع قطنا نزرع نتيرب.. نحقق املنا يا التوم اخوي يللا الزراعة اصلو العمل.. همة وسراعة مصطفى عوض الله بشارة المراجع: كتاب «الطقوس السودانية عبر التاريخ» تأليف شمس الدين يونس وكتاب «مواقف ورؤى في الشعر السوداني» تأليف مصطفى بشارة وكتاب «الأدب الشعبي في السودان » تأليف عز الدين احمد حسن و كتاب «الثقافة الشعبية السودانية» تأليف عبدالملك الطاهر..