كلما لاح في الدجى بارق من ضياء في نفق العلاقات السودانية الأمريكية تأتي العتمة مجددًا وتلقي بظلالها على مشهد العلاقة بين الخرطوم وواشنطون ذلك حينما تنشط مكونات الإدارة الأمريكية ولوبياتها الداخلية في تعاطيها مع الشأن السوداني بما يلبي المصالح والإستراتيجيات الأمريكية «شد وجذب.. بعد واقتراب.. جزرة وعصا» تلك هي مسارات الحراك السياسي والدبلوماسي في الأجواء السودانية الأمريكية منذ ميلاد ما عرف ب«مشروع الإسلام السياسي» في السودان في الثلاثين من يونيو 1989 غير أن الثابت في هذا الحراك هو النهج أو السياسة الأمريكية بكل أشكالها وأدواتها وآلياتها تجاه السودان، أما المتغير فهي الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض والتكتيك والمناورات من قبل هذه الإدارة المريكية إزاء مجمل ما يجري في السودان. ولعل أبرز ملامح محاولات الضغط والاحتواء التي مارستها أمريكا ضد النموذج السوداني كانت في العام 1996، وهو ما عُرِف بعام القطيعة والعزلة السياسية والاقتصادية والدبلوماسية، ولكن ما بين الأمل والرجاء بَنَت الحكومة السودانية عشمها على نتائج وانعكاسات حزمة التحولات وربما التنازلات التي سلكتها الحكومة خصما على ثوابتها ومواقفها المعلنة أو هكذا يعتقد المراقبون. ويبدو أن الإدارة الأمريكية تحاول الاستجابة لمجموعة الضغط الداخلي أو صقور الكونجرس فتعلي من شأن «العصا» وتتخلى عن الجزرة إلى حين وهو أسلوب تكتيكي فاعل وواضح في السياسة الخارجية الأمريكية إلا أن واشنطون تحاول إقرار مشروع قانون جديد أسمته بقانون «محاسبة السودان للعام 2012» عبر الكونجرس.. مشروع تحركه وتروِّج له مجموعة السيناتور فرنك وولف، وهي مجموعات ضاغطة عرفت بإنتاج السيناريوهات وتحريض القرار الأمريكي ضد الحكومة السودانية وركزت فكرة القانون ومضامينه على إيجاد إستراتيجية شاملة تضع حدًا لما اسمته بالإنتهاكات لحقوق الإنسان وتعزيز الإصلاح الديمقراطي والتأسيس لسلام مستدام في السودان، كما أن القانون يخاطب الأزمة الأمنية والسياسية في جنوب كردفان والنيل الأزرق وأبيي ويشكل كذلك منظومة عقوبات واسعة تشمل الأفراد والحكومات والمؤسسات وكل الجهات التي يستهدفها القانون.. غير أن الحكومة لا يبدو أنها مهتمة بالدرجة التي تكافئ خطورة هذا القانون وإسقاطاته على القضية السودانية ولكنها تنظر له كإحدى حلقات مسلسل قديم بلا نهاية وأسلوب قديم ألفته الحكومة وتعاملت معه بتكتيك محدد ووفق معطيات واقع الحال، ولكن هذا لا يعني أن تترك الحكومة الحبل على الغارب وتدفن رأسها في الرمال وتتعامل بلا مبالاة مع التحركات والضغوط الأمريكية الأخيرة رغم أن السيد رئيس الجمهورية كان قد صرح الأيام الفائتة «بأن العصا لا تخيفنا وأن الجزرة ما محتاجين ليها» غير أن المعطيات تشير إلى أنه ربما تحدث هذه الضغوط تحولات وتأثيرات كبيرة وفاعلة في خارطة الأحداث السياسية في السودان خصوصاً إذا تمت قراءة ذلك مع التوجهات التي أعلنها السيد رئيس الجمهورية مؤخرًا بأنه لا ينوي الترشح لفترة رئاسية أخرى في 2015 وتبقى الخطورة في أن يتبنى مجلس الأمن مشروع القانون الأمريكي الجديد، وإذا ما تمت هذه الخطوة فإن المرحلة المقبلة ستشهد فصلاً جديدًا من السجال السياسي والقانوني على غرار ما تم بين الحكومة السودانية ومحكمة الجنايات الدولية، ولكن الحكومة لا يبدو أنها في موقف أو قدرة تمكنها من مجابهة الضغوط الأمريكية التي تتعاظم الآن شيئاً فشيئاً، هذا ما أقره الدكتور قطبي المهدي القيادي البارز بالمؤتمر الوطني في تصريحات صحفية بأن حكومته غير راغبة في الدخول في مواجهة مع الإدارة الأمريكية، الأمر الذي يفسر حقيقة التراجع الكبير في الخطاب السياسي والتعبوي الذي عرفت به الإنقاذ في بواكيرها ضد أمريكا والغرب عموماً. وفي سياق القضية ذاتها اعتبر الدكتور خالد حسين خبير القانون الدولي ومدير مركز البحوث الدراسات الإستراتيجية في حديثه ل«الإنتباهة» اعتبر أن مشروع القانون الأمريكي لا جديد فيه وإنما هو ضمن مجموعة من الأحداث والضغوط والأدوار التي ظلت تلعبها الإدارة الأمريكية في المسرح السوداني، ولكنه أشار إلى أن المشهد بدأ مع أحداث جنوب كردفان والنيل الأزرق، وأن أمريكا أرادت من ذلك تأمين مصالحها في الدولة الجنوبية الوليدة رغم أن أمريكا نفسها على قناعة تامة بأن هذه الدولة غير قابلة للحياة ما لم يكن هناك تعاون كامل بينها وبين دولة الشمال. وذهب الدكتور خالد الحسين في حديثه ل«الإنتباهة» في اتجاه أن الإدارة الأمريكية لا تملك كل الخيوط في دولة الجنوب ولكنها تكثف من تحركاتها لخلق نزاعات مستمرة بمساندة من اللوبي الصهيوني ومجموعة اليمين المسيحي المتطرِّف التي تسيطر بشكل كبير على كل شركات النفط الأمريكية الكبيرة وأن هذه الشركات تعتقد بأن بترول الجنوب لابد أن يذهب إلى أمريكا ولا يسمح لأي جهة للاستمتاع به بحكم أن أمريكا صاحبة الشأن في اكتشاف البترول، وهذا هو المبرر الذي جعل الإدارة الأمريكية تتحرش بالصين صاحبة الاستثمارات الكبرى في مجال النفط في الجنوب السوداني، ولهذا هي تحاول الاستيلاء على بترول الجنوب من خلال الديون وإنشاء خط أنابيب وميناء جديد لتصدير البترول.