يبدو أن الوساطة الإفريقية بقيادة ثامبو أمبيكي التي تدير ملف التفاوض بين الخرطوموجوبا في العاصمة الإثيوبية أديس قد حققت هدفاً أولياً، لكنه لم يكن عصياً بحصولها على توقيع وفد الحكومة السودانية وإن كان بالأحرف الأولى على اتفاقية «الحريات» انتظارًا للتوقيع النهائي بين الرئيسين في اللقاء المزمع عقده بجوبا. نقول لم يكن ذلك بمستغرب، ولم يكن كذلك عسيرًا والعين تكاد لا تخطئ عدد الخبراء الأجانب الذين يحتشدون خلف وفد جوبا والذين يديرهم المبعوث الأمريكي برنستون ليمان المتجوِّل في كل قاعات التفاوض في أديس. ولم يكن الأمر يحتاج إلى كثير اجتهاد لإدراك نوعية مخرجات مثل هذه المفاوضات التي أكدنا في مقالنا السابق وقبل توقيع الاتفاقية الإطارية أنها تأتي في ظروف غير مواتية على الإطلاق لا داخلياً ولا خارجياً. ولقد أكدنا أن هذه المخرجات لن تكون إلا رجع صدى للأحداث التي تزامنت معها ربما صدفة وربما غير ذلك كقرار المحاسبة في الكونغرس وتوابعه من زوابع المنظمات الأجنبية، ثم العداء السافر من قبل جوبا وحرق ممتلكات السودانيين في أحد أكبر أسواق جوبا الأسبوع قبل الماضي، إضافة إلى طرد السودانيين من الجنوب في استعداء غير ملائم للخرطوم وقبلها وبأسوأ منها الضربة العسكرية لمدن سودانية، وغيرها وغيرها من أحداث ظلت تتلاحق طيلة الشهر الماضي ثم التململ الكسير وسياسة النفس الطويل التي تتبعها الخرطوم والتي تجعل الحليم حيرانا، والصبر على كل هذه العداءات دون اتخاذ إجراءات رادعة وبالمثل ضد جوبا كل هذه كانت دلائل غير كذوبة لما ستسير عليه جولة المفاوضات، وما ستخرج به بالتالي جلسات التفاوض. وهو ما يعد انهياراً كاملاً لكل ما ظلت الخرطوم تعالجه منذ التاسع من يوليو الماضي، وما يعني بالتالي التراجع عن كثير من المواقف والسياسات التي ربما تفقد القائمين على الأمر الكثير من المصداقية والموضوعية. نقول إنه وعلى الرغم من التوقع المسبق لطبيعة مخرجات التفاوض إلا أن الأمر قد جاوز هذه التوقعات بكثير. فمثل هذه الاتفاقية تكون عادة نتاجاً لعلاقات قوية وطبيعية قائمة بين الدول وممتدة بعيدًا عن التشاكس والمكايدات، ناهيك عن التوترات والمناوشات المسلحة بل وادعاءات الاستعباد والرق، فهي أقرب ما تكون إلى التكاملات الاقتصادية والسياسية بين الدول التي توحدها الأهداف والمصالح المشتركة. وذلك يعني أنها بمجملها «ترف» في العلاقات التي تكون قد وصلت إلى مستويات بعيدة من التعاون. فأين هذا من الملفات شديدة السخونة العالقة بين البلدين: ملفات الصناعة النفطية ولا نقول النفط فقط فهي صناعة كاملة أريد للوطن أن يخرج منها صفر اليدين بعد أن أدار كل مطلوباتها بقوة واقتدار ،الملفات الأمنية، حروب الوكالة في جنوب كردفان والنيل الأزرق والتي تسعى لإسقاط الخرطوم وليس نظام الخرطوم كما تدعي الجبهة الثورية، والدعم المكشوف الذي على رؤوس الأشهاد لحركات دارفور. كل ذلك كان يفترض أن يأتي على رأس أجندة التفاوض إن كان للأمور أن تستقر بين الجارين برغم خيوط الدمى التي تربط جوبا بأصابع واشنطن وتل أبيب، وبرغم الحملات التي تديرها العقليات التي اعتادت اصطياد «المواقف» في الماء العكر، بمثل ما يفعل تحالف «أنقذوا دارفور» حالياً. وسعيه لإثارة الغبار حول مواقف الحكومة السودانية والتشكيك في شرعية هذة المواقف بل وإثارة الرأي العام العالمي حول رموزها السياسية وقياداتها، وما الوقفة الاحتجاجية التي نفذها أمام السفارة السودانية بواشنطن وأدت لاعتقال الممثل جورج كلوني أحد أهم النشطاء في التحالف مع آخرين إلا أوضح دلالة على ذلك. وهو في ذلك يستعمل حيلة نفسية بارعة تجعل من السهل على وفد الخرطوم المفاوض أن يبادر إلى اتخاذ أي قرار من شأنه أن يثبت حسن النوايا، بل وأن يبدي الرغبة في المرونة وهزم المواقف المتعصبة مهما كانت كسباً للتأييد الدولي. وإن كان للتحالف أي منطق أو مبدأ فلماذا لا يتحدث عن الآلاف الذين يطحنهم الجوع والعوز والصراعات السياسية داخل الدولة الوليدة، لماذا لا يتبني سياسة مناهضة للتفرقة العنصرية التي تجري على مرأى ومسمع العالم داخل هذا الكيان الجديد؟؟ إن تساؤلنا ليس إلا تقريرياً، فما يدير كل هذا الحراك هو معلوم بالضرورة لكل طفل في العالم العربي وليس السودان فقط. وما يهمنا من كل هذا، وعودًا على بدء نقول إن توقيع هكذا اتفاقية في ظل كل الحيثيات التي تؤكد انعدام الاستقرار بين البلدين على كل المستويات ما هو إلا انتحار للدولة وفناء للشعب واستباحة للأرض، فماذا يتبقى بعد؟؟!