أثار الاتفاق الإطاري الذي تم توقيعه بأديس أبابا مؤخراً ضجة سياسية واسعة ما زالت تداعياتها قائمة ومتطورة حتى هذه اللحظة. اتفق الطرفان على تطبيق مبدأ الحريات الأربع وتوفيق أوضاع مواطني البلدين وترسيم الحدود مع الاستمرار في المفاوضات في ملف البترول، الحكومة أعلنت مسبقاً قبل سفر وفدها المفاوض إلى أديس أبابا بأنها سوف لن تناقش خلال هذه الجولة من المفاوضات أي بند آخر سوى البند الخاص بملف النفط ولكنها سرعان ما تراجعت عن ذلك كالعهد بها دوماً في مثل هذه المواقف. يأتي هذا التراجع في إطار استراتيجية التنازلات التي ظلت تقدمها الحكومة خلال سير أي جولة من المفاوضات. هذا يعني أن الوفد المفاوض لم يناقش الموضوع الرئيسي الذي ذهب لمناقشته!!. اتفق الطرفان كذلك على عقد قمة رئاسية ثنائية بين البلدين بجوبا وقد قدم هذا الاقتراح باقان أموم باعتبار أن رئيس حكومة الجنوب قد قام بآخر زيارة للخرطوم ولذا ينبغي رد هذه الزيارة. كذلك رشحت بعض المعلومات التي تشير إلى وجود اتفاق تدفع بموجبه حكومة الجنوب مبلغ «206» ملايين دولار خلال ثلاث سنوات ونصف السنة للخرطوم، كما اقترح وفد الوساطة الأفريقية جمع مبلغ «2.4» مليار دولار من المجتمع الدولي كمساهمة في معالجة الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها حكومة السودان. المراقب السياسي يلاحظ أن هذا الاتفاق الإطاري قد جاء وفق الرؤية التي كانت تنادي بها جوبا وهي تقديم مساعدة مالية للخرطوم لمساعدتها للخروج من أزمتها الاقتصادية مقابل الاتفاق على طي كل الملفات العالقة. الخرطوم كانت ترفض بشدة الحريات الأربع وترفض المساعدات المالية التي تقدمها لها جوبا وترفض مناقشة أي موضوع آخر سوى ملف النفط خلال مفاوضات أديس أبابا الأخيرة ولكنها تراجعت عن كل ذلك وقبلت بما كانت ترفضه مسبقاً!! تذبذب المواقف وعدم الثبات على مبدأ واحد شوه صورة السودان خارجياً وربما تكون هذه التنازلات نتيجة لضغوط خارجية أو للتحسب لمشروع قانون محاسبة السودان لعام 2012م الذي تجري مناقشته بالكونغرس الأمريكي حالياً أو ربما يكون الدافع إيجاد مخرج لرحلة الشتاء والصيف للمسيرية أو ربما تكون الخرطوم تفكر في إحياء قطاع الجنوب الذي أصبح أثراً بعد عين ليكون ترياقاً مضاداً لقطاع الشمال أو ربما تكون الخرطوم تسعى لإحياء مشروع الوحدة الجاذبة التي قبرت مع عرابها. باختصار شديد هذا الاتفاق الإطاري يخدم مصالح حكومة الجنوب لأنه لا يوجد شمالي عاقل يستثمر أمواله في بلد يكن له حقداً دفيناً، أما المسيرية فيكفيهم الرعي شمال بحر العرب، الغريب في الأمر أن الخرطوم قد سبق لها أن رفضت الاتفاق الإطاري الأول الذي تم توقيعه مع مالك عقار وهو أفضل بكثير جداً من هذا الاتفاق الإطاري الجديد الذي يعتبر أكبر مهدد للأمن القومي السوداني لأنه يمثل نيفاشا ثانية!!. ما يحير الإنسان حقاً أن الحكومة قد أشادت ورحبت بهذا الاتفاق الإطاري الذي يمثل كارثة جديدة، لقد تم الترحيب على عجل قبل إخضاع الاتفاق للدراسة المتأنية وهذا الترحيب المبكر يعطي الضوء الأخضر لهذا الاتفاق ليصبح اتفاقاً نهائياً وهنا تكمن الخطورة. مساوئ وعيوب هذا الاتفاق عكستها حملات الرفض الواسعة التي انطلقت من المساجد والدفوعات التي قدمها رئيس الوفد المفاوض كشفت عن عدم قناعاته الشخصية بهذا الاتفاق. الخوف كل الخوف أن يكون هذا الاتفاق الإطاري مقدمة لتنازلات أكبر بعد قبول المنحة المالية المشروطة لحكومة الجنوب. الحريات الأربع كانت مكفولة للجنوبيين ويتمتعون بها في ظل الوحدة وطلب منهم رئيسهم أن يصوتوا لصالح الانفصال حتى لا يصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية وليتحرروا من العبودية ولقد استجابوا لدعوته ونالوا استقلالهم. ما هي الحكمة في الدعوة للعودة مرة أخرى لحياة العبودية والمواطنة من الدرجة الثانية؟!! ولماذا الخروج من الباب والدخول من الشباك؟!! إن توقيع هذا الاتفاق الإطاري في أجواء العداء السافر لحكومة الجنوب وتحت ظل عدوانها الغادر على جنوب كردفان يمثل نوعاً من الاستسلام كما أنه سيهزم نفرة التعبئة العامة لصد العدوان الذي تنفذه جوبا في إطار الدور المرسوم لها. بالنظر لمحتويات الاتفاق الإطاري فإن ترسيم الحدود قد كان متفقاً عليه قبل الانفصال ولكن مماطلة وعرقلة الحركة الشعبية هي التي قادت لتأجيله حتى هذه اللحظة، أما الحريات الأربع فإنها توقع مع الدول الصديقة والشقيقة التي تربطنا بها علاقات حسن جوار متميزة وروابط اجتماعية ومصالح مشتركة ولها استثمارات كبيرة تستفيد منها البلاد ولكنها لا توقع مع دولة تعلن عن عدائها السافر لبلادنا، أما صدقة باقان أموم المشروطة التي تبجح بها كثيراً فإنها مرفوضة وأما المساعدات المالية من المجتمع الدولي فإن للخرطوم تجارب كافية في هذا المجال ولا يمكن لها أن تنخدع ثانية بمثل هذه الترهات السخيفة!! أما عن زيارة رئيس الجمهورية لجوبا للتوقيع على الاتفاق النهائي فلا مبرر لها لأن ما اتفق عليه لا يستحق توقيع رئيس الجمهورية، كما أنه لا خير يرجى من هذه القمة التي فشل طرفاها خلال ست سنوات عندما كانا شريكين في حكومة واحدة ولم يتمكنا من معالجة تلك القضايا العالقة وفشل القمة الأخيرة بأديس أبابا يعتبر مؤشراً قوياً على ذلك. جوبا غير آمنة بعد أن أصبحت مركزاً للاستخبارات الأجنبية للدول الغربية والولايات المتحدةالأمريكية وإسرائيل والدول الأفريقية المعادية للسودان هذا بالإضافة لوجود حركات التمرد خاصة حركة العدل والمساواة التي هددت بالثأر لمؤسسها وزعيمها. ليس هنالك أي مجال للمقارنة بين زيارة سلفاكير الأخيرة للخرطوم، هذه المدينة الآمنة، التي جاءها يستجدي إطعام مواطنيه من شبح المجاعة الطاحنة، الاتحاد الأفريقي هو صاحب الوساطة ومقره أديس أبابا فإن كانت هنالك ضرورة لعقد قمة ثنائية للتوقيع فينبغي أن تكون أديس أبابا هي المكان المناسب لها ولا مجال للمجاملات في الأمور السيادية. خلاصة القول لقد حسمت جوبا قطاع الجنوب سياسياً بسرعة فائقة بينما فشلت الخرطوم في حسم قطاع الشمال وها هي تريد أن تدعمه بهذه الاتفاقية الإطارية المشبوهة. تمثل هذه الاتفاقية انتهاكاً للسيادة الوطنية وهي اتفاقية غير قابلة للتنفيذ، حيث إن السودان لم ينفذ اتفاقية الحريات الأربع مع مصر الدولة الصديقة والشقيقة فكيف يمكن له أن ينفذها مع جوبا التي كشفت عن نواياها العدوانية؟!! ختاماً يبدو أن الوفد المفاوض لحكومة الجنوب قد كان يفاوض نفسه طيلة فترة المفاوضات السابقة ولهذا فلا غرابة أن جاءت مخرجات مفاوضاته متسقة تماماً مع كل أطروحاته التي كان ينادي بها. المطلوب الآن قفل باب هذه المفاوضات العبثية التي لا طائل يرجى من ورائها. وبالله التوفيق. فريق أول ركن زمالة كلية الدفاع الوطني