ما الذي يجعلُ «النظافة» تبدُو طبعاً من طباع بعض المُدُن في هذه الدنيا؟؟ وما الذي يجعلُ بعض المُدُن الأُخرى لا تستمِدُّ شخصيَّتها إلا من «قذارتها»؟؟.. وما الذي يجعلُك تعاني الحياء، يا سيدي، وأنت تتجوَّلُ راجلاً في طرقات عاصمتنا أو بعض أحيائها «الراقية!!» يقُولُ لك البعض، واثقاً، إن المسألة مسألة «إمكانات»، وإن تلك المُدُن النظيفة، يغسلونها، بالصابون المعطَّر، مرَّتين في اليوم!! وأن الخرطوم لا تملك القدرة الماليّة على إجراءٍ كهذا.. ولكنَّك تستطيع أن تكتشف، وأنت تتجوَّلُ في بعض العواصم الإفريقيَّة الفقيرة، أنّ المسألة ليست هكذا، وأن بعض الفقراء جدَّاً في هذه الدنيا، يستطيعون، مع فقرهم، الاحتفاظ بمُدُنهم نظيفة!! وتستطيعُ بعد ذلك، أن تتأمَّل بعض القضايا المرتبطة بصميم «ثقافتنا» الشعبيَّة، وتربيتنا، لتكتشف توَّاً مربط الفرس.. وأوَّل ما سوف تكتشفه في هذا الخصوص، هو أن «عامل النظافة» السوداني، هو شخصٌ بالضرورة لا يُحِبُ مهنتهُ، ولا يحترِمُها، وأن الآخرين أيضاً، بما فيهم شخصك الكريم، لا يُحبّونُ مهنة «عامل النظافة» ولا يحترمونها، ولا يحترمون صاحبها!! فإذا تذكَّرت، من مطالعاتك الكثيفة، في التاريخ وفي الجغرافيا، أنَّ الحضارة ما نشأت في مدينة إلا بفضل حُبِّ أهلها لمهنتهم وأعمالهم، وافتخار كل منهُم بما يُحسِنُه، وإذا تذكَّرت أنَّ من قواعد التربية عندنا أن يُنشَّأ المرءُ، منذ طفولته الباكرة، على أن يُصبح «طبيباً» أو «مُهندساً»، فإذا تقاعس طُموحُه، فلا أقلَّ من محامٍ أو قاضٍ أو موظف كبير يُشارُ إليه بالبنان.. وإذا تذكَّرت أن العمل اليدوي في ثقافتنا هُو أمرٌ يُتركُ للرجرجة والغوغاء، وإذا رأيت بعد ذلك،أنّهُ حتى الرجرجة والدهماء هؤلاءِ لا يسقُطُ بهم طموحهم إلى القبول بوظيفة «عامل نظافة» أو«كنَّاس» إلاَّ حين يبلغون مرحلة التسوُّل.. عندها فقط، يا مولاي، سوف تعرف: لماذا تظلُّ الخرطوم إحدى أقذر عواصم الدنيا؟؟ عسيرٌ جدَّاً بالطبع أن تطمح إلى إعادة تربية مجتمع، وتغيير فلسفته وثقافته كلها، حتَّى تحصُل على «عامل نظافة» يُحِبُّ مهنتهُ ويحترمُها، ويفخرُ بها.. وأكثرُ عُسراً من ذلك، أن تأمل في مُجتمعٍ يستطيعُ الإحساس «بالعار» في مدينةٍ قذرة، وينظُرُ إلى عامل النظافة كما ينظُر الغريقُ إلى مُنقِذِه.. عسيرٌ جدَّاً هذا التغيير الجوهري، ولكنه يظلُّ تغييراً لا بُدَّ منهُ ولا غِنى، إذا إردنا بالفعل الاستمتاع بمُدُنٍ نظيفة. الغريب، الغريبُ جدَّاً، هو أن الإنجليز عندما «هربوا» من السودان ناجين بجلودهم كانُوا قد تركُوا في السودان منهجاً تعليمياً وتربويَّاً يُعلي من شأن النظافة ويُرسِّخ احترام شخصيَّة «الكنَّاس» لدى تلاميذ المدارس، حتَّى أنَّ مناهج «بخت الرِّضا» وكُتُبها ظلَّت حتّى أوائل سبعينيات القرن الماضي لا تخلو خصوصاً كتب المطالعة من صورةٍ لرجُلٍ مهيب، يحمِلُ مكنسةً وينظِّفُ الطرقات.. أذكُرُ شيئاً كهذا، وأعلمُ أن هؤلاء الإنجليز أنفسهُم ظلُّوا يحتفظون بمدُنهم نظيفةً ليس لأنهم أثرياء، ولكن لأنهم يحترمون الكنّاس غاية الاحترام، ويُخاطبونه بلقب «يا سيدي» ويرتقون بوظيفته في سلم الترقيات حتّى درجة «مستشار»، وفي القطاع الخاص أصبح كثيرٌ من الكنَّاسين الأوربيين مديري شركات نظافة!! ما يزيدُ من يقيني أن قذارة عاصمتنا وأحيائها، هي ناتجٌ مباشرٌ لهذه التربية البلهاء، ما يلاحظه كل أحد، من أن أكثر أحياء الخرطوم قذارة هي تلك التي يسميها الناس ب«الأحياء الراقية»، أو «أحياء الدرجة الأُولى»، وهي أحياء غالب ساكنيها هم من ذوي التعليم المتقدم والثقافة الرفيعة ، ولكنهم جميعهم تقريباً من ثمرات التربية التي تحتقر العمل اليدوي، وتعتبر أن أهم الناس على الإطلاق هو ذلك الذي لا يفعلُ شيئاً بيده على الإطلاق!! قد تتساءل: ما بالك تُنحي باللائمة على المواطن وحدهُ ، وتُغفِل دور «الدولة» في قذارة عاصمتنا؟؟ الدولة يا شيخ، هي في نهاية أمرها مجموعة من الرجال خرجوا من صُلب ذات المجتمع، وتعرَّضوا لذات التربية، وظلَّت علاقتهم «بالنظافة» مثل علاقتهم بالشعر، يتغنون بها ويلهجون بذكرها، ثم يحتارون في كيفية تحقيقها!! .. حتَّى لقد طردُوا جميع «الفرَّاشين» الذين كانت الدولة توظفهم في القطاع العام بغرض العناية بدواوين الخدمة العامة ومكاتبها، وتنظيفها، طردوهم، وراحوا يتعاقدون مع «شركات خاصة» للنظافة، فكانت النتيجة أن أصبحت المكاتب أقذر حالاً منها على أيام «الفراشين» والكناسين، وأصبحت ميزانية كنسها عشرة أضعاف رواتب أولئك الفراشين!! غياب «الكناسين المحترفين» الذين يُحبون مهنتهم ويحترمونها، مسؤول عن نصف «قذارة» العاصمة.. أما النصف الآخر، فمسؤول عنه أولئك «المهندسون» الذين ظلوا يدهشونني على مدى أكثر من عشرين سنة، ظللتُ خلالها، مثل كل الناس، أستنشق يومياً، وفي قلب عاصمتنا، نواتج انفجارات أنابيب الصرف الصحي، وأخوض، كل خريف، البحيرات التي تغمر الطرقات، والمكونة من مزيج دقيقٍ ومنضبطٍ من مياه الأمطار «وبيننا وبين الخريف ثلاثة أشهر» + مياه الصرف الصحي + فضلات الأطعمة والأشربة المصحوبة بالصناديق الورقية وأكياس النايلون.. ما ظل يُدهشُني هو أصرار أولئك المهندسين على ارتكاب أخطاء عبقرية، يُدركها أبعد الناس عن الهندسة، تتمثل في إنشاء مصارف مبنية على هيئة جداول «هذا طبعاً في قلب المدينة، وفي بعض الأحياء الراقية فقط» تظلُّ خالية من الماء في «عِز» الخريف، بينما يحيط بها الماءُ من كل جانب!! كأنهم يتوقعون أن «يختشي» الماء من رقدته على الطريق، فينهض، ويبحث عن «سلّم» يرتقيه حتى يبلغ حافة المجرى الأنيق، ثم يندفع إليه، محطماً قانون الجاذبية إلى الأبد!!! لماذا لا يُعاقبُ مُهندسٌ أخطأ في شق مصرفٍ للمياه، فجعل مدخل الماء إليه أعلى من مستوى الأرض المحيطة به .. بل لماذا لا تُسحب «شهادات» أمثال هؤلاء، التي هي بالتأكيد مشتراة أو مزورة؟؟ إن قذارة الخرطوم هذه، لا تتوقف إلا على شخصين: كنّاس يُحبُّ مهنته، ومهندس يستحق اللقب الذي يحمله!!