حمِّيد.. سيرة ومسيرة!! من مدينة مروي التي استمدت من النخيل شموخها، ومن التاريخ حضارتها ومن النيل حياتها.. جاء الشاعر محمد الحسن سالم حمِّيد في العام 1956 بمدينة نوري، تلقي تعليمه الأولي والأوسط بمدينة نوري حيث زامل في تلك الفترة عدداً من الشخصيات التي ساهمت في صناعة الحياة السودانية في شتى مجالاتها السياسية والفكرية ومن الذين زاملهم الراحل حمِّيد الفريق أول صلاح عبد الله قوش الذي تربطهم علاقة صداقة قديمة وأولاد «كنبة» واحده بجانب الصحفي المثير للجدل الأستاذ عمار أحمد آدم، لينتقل بعدها حمِّيد إلى أرض الحديد والنار، عطبرة، ليواصل تعليمه الثانوي حيث التحق بمدرسة عطبرة الشعبية الثانوية، وفي بدايات العام 1978م، عمل في هيئة الموانىء البحرية منذ حتى1992 وظل متنقلاً بين الخرطوم وبورتسودان. ولحمِّيد عدة دواوين منها: حجر الدغش، مجموعة نورا، الجابرية، ست الدار، مصابيح السما التامنة وطشيش. ومن أشهر قصائده «نورة» و«أرضاً سلاح» و«عم عبدالرحيم» و«عمنا الحاج ودعجبنا» و«ياتو وطن» و«من حقي أغني» و«الضو وجهجهة التساب» و«لبن الطيور». ونجد أن حمِّيد شكل ثنائية مع الراحل مصطفى سيد أحمد حيث تغنى له الآخر بالعديد من الأعمال التي تقاربت مع المشروع الغنائي لمصطفى سيد أحمد فخرجت «نورة وست الدار وعم عبد الرحيم ويامطر عز الحريق وغيرها....» كما أن حمِّيد لم يخرج بعيدًا عن بيئته، فتعاون مع عدد كبير من فناني الطمبور ومنهم صديق أحمد وميرغني النجار ومحمد جبارة ومحمد النصري. «الإنتباهة».. مع حمِّيد في أزقة نوري!! بطيبته المعتادة وبساطته العفوية قدّم لنا دعوة لزيارة الولاية الشمالية، وكنّا عندما نرتب معه موعداً لحوار يقول «تعال نقص البلد وخلي الحوار حبه» وفي أحد الأيام توجهنا إلى مدينة نوري حيث استقر به المقام عقب مقاطعته الشهيرة للخرطوم قمنا بزيارة أخذت الطابع الاجتماعي وتقديم واجب العزاء في وفاة زوج شقيقته. وكانت أيضا مناسبة قام فيها الشاعر بجولة داخل أزقة نوري وحواريها وهي تفاصيل زيارة ليست للنشر، سرد لنا فيها قصته مع «السرة بت عوض الكريم» و«الضو وجهجة التساب» وحكي لنا كيف خرجت «عم عبد الرحيم». حمِّيد..سكت صوت المغني حزين!! لقي حمِّيد حتفه في حادث سير عند الكيلو «167» في الطريق القومي «شريان الشمال» وكان في طريقه إلى الخرطوم للمشاركة في احتفالات شركة «زين» للاتصالات بعيد الأم وتدشين ديوان «بحر المودة» للشاعر السر عثمان الطيب.. وشهد مراسم التشييع الوزير السموأل خلف الله وحضور من قطاعات المجتمع السوداني كافة بمختلف اتجاهاتهم الفكرية والأدبية.. القدال وأزهري..الصمت في حضرة الأحزان!! وقبل التشييع وفي بهو مشرحة أمدرمان التي استقبلت جثمان الفقيد تكاثر الحضور في انتظار اكتمال الإجراءات .. أخذ الفنان أبوعركي البخيت ركناً قصياً منزوياً فيه بحزنه رافضاً الحديث لوسائل الإعلام، كما نبّه الشاعر محمد طه القدال بصوت عالٍ عدم تحدثه إلى أي وسيلة إعلامية، ليلحق به الشاعر أزهري محمد علي والشاعر هاشم صديق.. ولقد فضلوا الاكتفاء بالحزن والصمت فهو أبلغ وأفضل من الحديث الذي سيخرج منهمرًا بشلالات دموع. ويبدو أن لسان حالهم يقول كما كتب الراحل: زي التكنُّو قبل دا ما فارقنا زول بعد الرسول واللاّ التقول أول قلوب في الدنيا يغشاها القدر.. بعدن تضيع منّو الدروب تنطمبج الساحات حريق يدغي الطريق المحتمل كل الفريق سوقر وراك يا جرحنا الكيف يندمل ... حميد والقدال!! وفي السرادق حرص محمد طه القدال على «تصبير» المعزين برباطة جأش وصبر توارت فيه دموعه التي كانت تتساقط بين الفينة والأخرى، ومعلوم أن لحمِّيد معزة خاصة عند القدال، فهو يعد الصديق والأخ فما بين القدال وحمِّيد يكون الحكي ويكون الإبداع ويبدو أن شريط الذكرى ظل يسترجع تكرارًا أمام ناظر القدال ولسان حاله يقول «يا حمِّيد أقيف شوف الخلوق محنانة كفكف دمعتك والعبرة فوت خنقانة عسلك سال بحر فوقو النحل ونانة» حمِّيد.. «صوفي» النشأة.. ظل التوجه السياسي والفكري لحمِّيد مثار اهتمام وجدل لدى الكثير من المراقبين، فتارة نجد أن هناك من يقول إن حمِّيد محسوب على اليسار وتارة على اليمين وتارة للوسط وغيرها من التصنيفات، ولكن حمِّيد الذي قال في حديث سابق ل«الإنتباهة» إن مثل هذه الآراء لا تعني له شيئاً غير أنه مؤمن بمنتوجه الذي يقوله، وأضاف: على المتلقي والمتابع أن يفهم من سياق القول. وعن علاقته بالسياسة قال إن السياسة موجودة في كل شيء ولكن يتوقف المنتوج على المنتج، وأضاف: لا يمنع في المنظومة السياسية أن يمجد شاعر حزبه ولكن يبقى في آخر المطاف مقدار ما قدمه هذا الحزب للحركة الوطنية، وأي مبدع في مجتمع تناحري لابد أن يكون منحازًا «إلى الأغلبية الكادحة، ومن هنا إتخاذ المواقف موجود» في كل نظام وكل حكم يمر على البلاد. ويرى حمِّيد أن ثورة أكتوبر ثورة شعبية لامست الاحتياجات لدى الشعب لذلك وجدت الاهتمام والقبول من الشعراء وخرّجت الإبداعات، بينما هناك كثير من الأشعار محسوبة على الوطن وهي لا تمت له بعلاقة.. ولكن في الآخر كلٌ يغني لليلاه السياسية. ومع ذلك وخلافه يرى المراقبون أن البيئة التي خرج منها الشاعر حميد كانت بيئة صوفية وتحديدًا الطائفة الختمية التي لم يخفِ انتماءهم الصوفي لها ورددها كثيرًا. توقيع « قبل المصابيح تنطفي وينزل سواد إنفقدوا الخيل والعتاد إتمعنوا الدرب العديل إتضحوا بالصبر الجميل زمن الخساسات الخفي إن زالف الشوق في الرقاد قدح المواعيد بنكفي في الضلمة برد الليل مخيف قاسي احتمالو مع التعب والجوف خفيف...