إذا سألتم شخصًا غيري ربما قال شيئاً مخالفاً، ولكن إذا سألتموني فإنني أقول: نعم إن السيد مشلهت طلع عليه فجر هذا اليوم وهو يحدث نفسه، ولكن لذلك أسباب كثيرة، فقد أحس السيد مشلهت أنه في حاجة للكلام مع أي شخص، ولما لم يجد شخصاً يتوجه إليه بالكلام غير نفسه أخذ يحدثها بجملة واحدة ظلت معلقة في زوره منذ أن عاد من القنصلية وهو يقول: ويعملوا بيهم شنو؟ أنا عايز أعرف.. وللقصة بداية بعيدة: فقد وصله خطاب أن المنزل الذي شرع في بنائه قبل عشر سنوات قد أوشك على الانتهاء.. وكل ما عليه الآن أن يرسل المراوح والأحواض ليتم تركيبها.. وطالما أن القضية قد وصلت إلى طور المراوح والأحواض فمعنى ذلك أنه قد دنا على خير كثير، وأن المسألة الآن هي مسألة تشطيب فقط.. صحيح أن من جد وجد.. وأن من صبر ظفر، وان خطوة الألف ميل تبدأ بطوبة واحدة ثم ضربها وحرقها في كمين حلة كوكو.. إنه يتذكر ذلك اليوم الذي نحر فيه خروفاً أقرن قبل عشرة أعوام اشتراه بعشرة جنيهات، وهو يضع أول طوبة في ذلك الصرح التليد الذي سيبنيه لأنجاله من بعده.. واليوم فقد انحصرت المسألة كلها في التشطيف واللمبات وخلافه.. وقضى أياماً وهو يستمع إلى نصائح بعض الذين سبقوه في هذا المجال: ياخوي أحسن ليك تشتري من السودان.. وأنت بس عايز تتعب نفسك ليه؟ شحن ورخص وكلام فارغ.. بعضهم يقول له: ياخوي السودان مافيهو إلا البضاعة الصينية والإيرانية أحسن ليك تشتري الإيطالية أو الإنجليزية خليك مع المضمون.. وفي هذه الأثناء الذي تتوالى عليه الاستشارات تغيرت قوانين الاستيراد عدداً من المرات.. فقد شمل ايقاف استيراد المعدات الكهربائية والبنائية المراوح وأحواض التشطيف واللمبات وهناك 12 سلعة أخرى شملها الحظر كذلك، وكان لابد من أن يرسل الأموال للسودان لشراء تلك المواد، ولكن تغير القانون مرة أخرى، وأصبح من الممكن إرسال تلك المواد من الخارج.. ولذلك أوقف كل الاستشارات وقام بشراء كل المواد المطلوبة، وأرسلها إلى أخيه في الخرطوم.. وهو الذي كان يشرف على البناء.. الخطاب الذي وصله كان مبهجاً ومفرحاً فقد أخطره أخوه أن جميع المواد التي أرسلها تم استلامها وتخليصها، وأنها قد ركبت في أماكنها وصارت تعمل بكفاءة عالية.. كما أن المراوح في هذا الوقت الذي ينعدم فيه الهواء كانت تحضر الهواء من قرونه.. ولا أحد يعرف كيف تفعل ذلك.. لابد أنها مراوح مؤصلة وإليكترونية كما قال المقاول.. الخطاب الذي وصله بعد ذلك بأيام كان متجهماً ويثير كل الأحزان في أمة المغتربين الذين يبنون بيوتاً في السودان.. فقد أخبره أخوه في سطور قليلة أن الخفير كان غائباً في ذلك اليوم وجاء «الحرامية» وفكوا كل المراوح واللمبات والأحواض ولم يتركوا شيئاً، وهكذا توقف ضخ الهواء في غرف منزله، والجاتك في مالك سامحتك، ونرجو أن ترسل تلك المواد مرة أخرى.. ولم يدر ماذا يفعل فقد كان عليه أن يبدأ من جديد ومعنى هذا عليه أن يتأكد من شكل القانون الساري حالياً.. هل يسمح باستيراد مثل تلك المواد أم أن هناك حظرًا جديدًا قد صدر.. وبسؤال المسؤولين اتضح له أن باب الاستيراد لايزال مفتوحاً ولكن عليه أن يحصل على رخصة استيراد بعد أن يسدد رسومها.. ومع ورقة تسديد الرسوم لاحظ بنداً يقول 10 ريالات رسوم بسط الأمن الشامل و 10 ريالات رسوم خيل السواري.. وقد ظل يدفع تلك الرسوم منذ مدة طويلة، وتذكر مراوحه التي سُرقت ولم تستطع كل تلك الرسوم إرجاعها.. وباختصار فقد أرسل كل تلك المواد المطلوبة مرة أخرى، وأرسل معها بوليصة الشحن وظل ينتظر خطاباً من أخيه يفيد باستلام المواد.. ومضى اسبوع وأسبوعان وثلاثة وشهر وشهران وثلاثة.. ولم يصله مايفيد باستلام الأشياء.. وفاكس من هنا وتليفون، من هنا وخطاب من هنا.. ووصية من هنا وخطاب من هنا.. ووصية من هنا.. أخيراً جاءه خطاب من أخيه أنه كان يراجع سلطات الشحن دون فائدة، وأخيراً عرف بطريقته الخاصة ان كل المواد التي أرسلت قد سرقت من المخازن، ولا أحد يدري أين مكانها.. وأصيب السيد مشلهت بإحباط شديد وشعر أن كل العالم يتآمر على مراوحه تلك.. أنه في كل مرة يسدد رسوم خيل سواري البوليس يتوجس خيفة أن سرقة من نوع ما ستطل برأسها.. وعليه فقد قرر أن يترك موضوع المراوح واللمبات وأحواض التشطيف إلى حين رجوعه نهائياً، واستقراره في منزله بصورة دائمة.. وبعد ذلك سيشتري خيلاً لنفسه يحرس بها مراوحه وأشياءه الأخرى.. قبل شهر جاءه خطاب من أبناء أخته الأرمل أن يرسل ملابس المدارس والأحذية والثياب المختلفة، وهو قد اعتاد أن يشتري تلك الأشياء بالجملة ويجمعها على مدار العام بما فيها كسوة جميع أفراد العائلة وأن يرسلها في شنطة معتبرة اتفق الجميع على تسميتها بكسوة الصيف ثم يعقبها بكسوة الشتاء.. والتي تحتوي على الفنايل والبطاطين.. ولقد ظلت كسوة الشتاء والصيف تصل بانتظام لأهله.. وفي هذه المرة عليه أن ينوع لأن أبناء أخته الصغار سيتم ختانهم قبل فتح المدارس.. وعليه أن يرسل أيضاً «البنج» والشاش.. والقطن الطبي و «السرنجات» ثم مصاريف «الكرامة».. وبما أنه يملك «كومبيوتر» فقد أدخل كل تلك القوائم، وكل الذي يفعله أن يقوم بتنقيح القائمة وإضافة المواد الجديدة.. وبالطبع ليس هناك مجال للشطب.. فالمواد كلها مطلوبة وربما تتغير المقاسات.. بنطلون 32 يصبح 34، وشبط نمرة 6 يصبح شبط نمرة 7.. وهكذا.. حمل قائمته تلك وذهب لصديقه عبد الجليل الذي يعرف جيداً أين توجد الأشياء بالجملة والمفرق «وهذه تعني القطاعي».. يومين أو ثلاثة أيام على هذا النحو وهو يجمع كسوة الصيف والمدارس والطهور.. وبقيت معضلة كيف يرسل تلك الأشياء؟ كالعادة طبعاً يحملها للمطار وهناك سيجد حتماً شخصاً يعرفه.. وينحت على وجهه ملامح صخرية ثم يطلب من ذلك الشخص أن يحمل تلك الشنطة إلى أهله بعد أن يدفع له رسوم وزنها.. وهو يتحمل نظرات صاحبه القاسية وهمهمته بأنه يحمل شنطاً كثيرة.. ولكن طالما أنه يدفع ثمن وزنها فإن ذلك يخفف عنه وقع تلك النظرات.. وقد كان الرجل عند حسن ظنه فقد ذهب إلى أهله في منزلهم وسلمهم الشنطة.. وفرحوا بها كثيراً.. هذا على الأقل ما فهمه من المحادثة التي أجراها مع أخيه بعد أيام من سفر الشنطة.. وبالأمس فقط جاءته إشارة تليفونية تقول إن جميع الملابس التي أرسلها وجميع الأشياء الأخرى قد طاف عليها طائف من الجماعة إياهم ليلاً وسرقها ولم يترك شيئاً.. حتى الهدوم المعلقة في في الحبل.. شالوها.. ولمواساته وتخفيف الصدمة عليه قالوا له: تتصور كمان نط على جيرانا ناس حاجة حسنة وسرق التليفزيون بتاعهم.. ولهذا عندما كان في القنصلية وهو يسدد بعض الرسوم، وعندما كتب الموظف 10 ريالات سواري البوليس انفجر السيد مشلهت قائلاً: ويعملوا بيهم شنو؟ أنا عايز أعرف.. وظلت هذه الجملة معلقة في زوره إلى كتابة هذه السطور وهو يحدث نفسه قائلاً: ويعملوا بيهم شنو؟ أنا عايز أعرف..