المظاهرات التي شهدتها اكبر ثلاث مدن بريطانية هي لندن وليفربول وبرمينجهام خلال الأسبوع المنصرم عكست مدى الأزمة التي يعيشها المجتمع البريطاني جراء البطالة والحرمان والانقسام وعدم التجانس بين أفراده والتمييز علي أساس العرق والدين. بل اوضحت أن أكبر الديمقراطيات وأقدمها تعاني من هشاشة البناء الداخلي وعدم الالتزام بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي محلها نصوص القوانين البريطانية فقط عندما يتعلق الأمر بتعبير الشعب عن رأيه. فخلال موجة الربيع العربي التي شملت دولاً عدة ومازالت، كان صوت النقد البريطاني عالياً في كل تلك المناسبات بتوجيهها الانتقاد لأنظمة الحكم في تونس، مصر، البحرين وليبيا لقمعها المتظاهرين واستخدام القوة المفرطة ووأد حرية التعبير.. بل مازالت بريطانيا تنتقد النظام السوري وتصدر تقاريرها عن توفر الحريات في البحرين وضالعة عسكرياً في ليبيا كأكبر مشارك في قوات الناتو. مظاهرات بريطانيا صاحبتها أحداث عدة غضّ عنها المجتمع الدولي الطرف في تحيز واضح وشحذ غير مستتر لازدواجية المعايير.. فخلال أربعة أيام فقط من التظاهر سقط خمسة قتلى بعضهم جراء الاستخدام المفرط للقوة من قبل قوات الشرطة بما يمثل انتهاكاً صريحاً لحقوق الإنسان وحق الشعب في التعبير عن رأيه.. وتم اعتقال أكثر من 1200 شخص بينهم أطفال دون سن الثالثة عشرة وجهت الاتهامات لأكثر من 700 منهم بينما ظلت البقية في الحبس دونما توجيه اتهام لهم بما يتناقض مع القوانين والأعراف الدولية.. بل إن قوات الشرطة عندما اشتدت موجة التظاهر خصصت اجتماعاً لبحث إمكانية استخدام الرصاص المطاطي ضد المتظاهرين وهو ذات الرصاص الذي صدرته بريطانية لمملكة البحرين والمملكة العربية السعودية وتونس في وقت سابق قبل قيام المظاهرات في تلكم الدول وهو ما كشفته وانتقدت إرساله الصحف البريطانية عقب تفجر المظاهرات في تلك الدول. بل إن الحكومة البريطانية ذهبت أبعد من ذلك عندما صرح رئيس وزرائها بأن قوات الجيش ستنزل الى الشوارع إذا ما استمرت المظاهرات وادعى أن هذا الحراك ماهو الا أعمال شغب تنظمها عصابات بغرض السرقة ولكنه لم يصل الى حد وصف المتظاهرين بتعاطيهم لحبوب الهلوسة كما فعل القذافي.. كما ذكر أن حكومته تدرس تعطيل خدمة رسائل بلاك بيري وخدمات التواصل الاجتماعي مثل فيس بوك وتويتر.. وصرح بإمكانية فرض حالة الطوارئ وحظر التجوال.. وصفت وزيرة الداخلية البريطانية هذه الأعمال بأنها إجرام صرف بينما اعتبر نائب رئيس الوزراء البريطاني نيك كليغ ما يجري بأنه سرقة انتهازية وعنف غير مبرر لا أكثر ولا اقل في حين حمّل عدد من المسؤولين مواقع التواصل الاجتماعي المسؤولية عن اندلاع هذه الأزمة. ولم تكتف الحكومة البريطانية باستخدام القوة المفرطة بل تعقبت اثر المدونين على الشبكة العنكبوتية والداعين للتظاهر عبرها واعتقلت شابين دون سن العشرين وحكم عليهما بالسجن لأربع سنوات لكل واحد منهما لدعواتهما للتظاهر والعنف والتخريب رغم أن دعوتهما لم تجد استجابة. المعارضة بقيادة حزب العمال أدانت بشدة اعمال العنف في لندن وعدد من المدن البريطانية لكنها رأت ان الاقتطاعات غير المسبوقة في الميزانية التي قررتها الحكومة ساهمت في اثارة استياء شرائح مهمشة من المواطنين في سياق خطة التقشف، ما ادى الى تراجع بنسبة 75% في الاموال المخصصة للخدمات الموجهة الى الشباب وقطع المنح عن آلاف الطلاب.. كما انتقدت غياب رئيس الوزراء ونائبه ووزيرة الداخلية إبان المظاهرات حيث كانوا في عطلات خارج البلاد.. ورد المحافظون بشدة على انتقادات المعارضة واتهموها «بالسعي بشكل غير مسؤول لايجاد اعذار لمجرمين». فيما لا تزال الأوساط الحكومية البريطانية تصر على وصف الأحداث بأنها أعمال إجرامية صرفة ولا مبرر لها يرى العديد من المراقبين أنها دليل على انفجار غضب شعبي طويل الأمد بسبب الحرمان والإهمال وقسوة تعامل الشرطة في مناطق معينة.. ومن جهتها اعتبرت صحيفة الغارديان في افتتاحيتها بتاريخ 9/ أغسطس أن نظريات المؤامرة والحرمان والشعور بالإقصاء ليست إلا جزءًا من الأسباب التي أدت إلى الأحداث الراهنة مشيرة إلى أن اندلاع الشغب حدث على خلفية زواج ملكي باهظ التكاليف وتراجع اقتصادي كبير صحبته خطة تقشف هي فوق احتمال الشرائح الفقيرة وتاريخ من التصرفات الاستفزازية للشرطة التي كانت تتراكم على نحو مثير للقلق والغضب.. في وقت تتسع فيه رقعة التشاؤم في بريطانيا التي تجد صعوبة في تحقيق نمو اقتصادي ومع قيام الحكومة بخفض الإنفاق العام وزيادة الضرائب للمساعدة في سد عجز الموازنة العامة الذي تجاوز عشرة بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي ليضاف ذلك كله إلى المخاوف من ارتدادات أزمة الديون الأوروبية والأمريكية على الأسواق العالمية. وأشارت الغارديان إلى أن الكثير من تصرفات الشرطة كانت عدائية وقاسية ورغم أنها تستند إلى نموذج عصري لكنها مع ذلك افتقرت إلى أي نوع من المحاسبة المقنعة لافتة إلى أن ما جرى ليس انفجار الشعور بالاستياء من الشرطة بل انفجار الاستياء من الفشل على عدة أصعدة. إن استخدام القوة المفرطة المؤدية لقتل المتظاهرين والحجز دون توجيه تهم واحتجاز أطفال دون السن القانونية لكلها أمور لو حدثت في دولة ضعيفة لسمعنا أصواتًَا كثرًا تندد بهذا الفعل وتطالب المجتمع الدولي بالتدخل لحماية المدنيين ولانتفضت جمعيات حقوق الإنسان والناشطين وطالبوا بالتدخل العسكري لدواعٍ إنسانية ولنشط الحراك الدبلوماسي في مجلس الأمن مصدراً حفنة قرارات حبلى بالتهديد والوعيد.. أما في حالة بريطانيا فإن الأمر في نظر أولئك لا يعدو كونه ممارسة الدولة لسلطاتها في فرض الأمن والنظام حتى ولو أزهقت في سبيل ذلك الأرواح واحتجزت الأنفس دونما جريرة غير رغبتها في التعبير عن ضيقها بما وصل إليه الحال في هذا البلد.